الإسبانية: اللغة التي منحتنا الحياة

الجمعة 19 فبراير 2016


يُنشر هذا المقال على جزئين كنسخة من المقال الأصلي المنشور سابقًا على موقع Afroféminas

حكايات اللغة والهجرة:

تحكي أمّي أنها عندما كانت صغيرة حُرّم عليها التحدّث بالإسبانية. “كفّي عن الحديث بلغة القرود هذه!” قالوا لها. “لغة القرود”: هكذا أشاروا إلى الإسبانيّة.

وفدت مجموعات السكّان السود التي أنحدر منها إلى بلادي كعمالة مهاجرة من الكاريبي الإنجليزي في نهايات القرن التاسع عشر. جاءوا بحثًا عن ظروف معيشية أفضل ليشكّلوا جزءًا من فريق عمّال إنشاء خطوط سكك حديد الأطلنطي الكوستاريكيّة وليعملوا في مزارع الموز الشاسعة. تكوّنت موجة الهجرة هذه التي ستمتد لعقود عديدة في بدايتها بغالبية من الرجال اليافعين، ثمّ وصلت فيما بعد عائلات كاملة على أمل جمع بعض المال والعودة لاحقًا إلى بلادهم.

حملت موجة الهجرة هذه أيضًا معلّمين ومعلّمات أسّسوا مدارس صغيرة بهدف الحرص على تعلّم الصغار الإنجليزيّة “الصحيحة”. فيما بعد، وبالرغم من مرور سنوات كثيرة، سيحدّث الأحفاد ذوي الأصل الأفريقي أنفسهم بفخر كبير: “نحن أبناء المملكة (بريطانيا)” وبأنّ غاية هذه الهجرة ليست الاستقرار بل جمع المال والعودة. الأمر الذي لم يحدث أبدًا.

تحدّث والديّ الإنجليزيّة، المظلّلة بإيقاعات ولكنات الكاريبي، بطلاقة وقواعد نحوية ومرادفات ممتازة. استطاعوا أن يعبروا بالمحادثة من إنجليزيّة بريطانيا الفُضلى إلى إنجليزيّة أمريكا اللاتينية العاميّة المهجّنة بلكنات وكلمات من الإسبانية. بهذه اللغة، أو اللغتين، تعلّم جيل والديّ الحكايات والأغاني والقصص.

عرفوا التصوّرات الخرافية عن الحيوانات، والمخلوقات الخارقة التي تحمل حِكمًا جوهرية، تخيّلوا التاريخ وأعادوا كتابته، طافوا بنا أراضي الأسلاف وعزّزوا التواصل بين الأجداد والجدّات والأعمام والجيران. حققوا تواصلًا بين شعوب بأكملها كانت تعيد معايشة تجارب من الماضي السحيق من خلال الطقوس والأديان. بهذه اللغة غنّت لي أمي أولى الأغنيات وعلّمني أبي كيف أكوّن جُمَلي الأولى. لم تمنحهم الإنجليزية امتياز استقبال ثقافة ومعارف أصيلة ونقلها فحسب، بل وهبتهم – على حد تعبيرهم – حالات معيّنة من الشعور بالانتماء إلى طبقة “ملكية” في بلد “المزارعين والأميّين” كونهم “رعيّة” المملكة البريطانيّة.

كفاح من أجل اللغة، كفاح من أجل الهوّية:

تجري أحداث هذا التاريخ بالطبع في بلد لغته الرسمية هي الإسبانية. لذلك كان على العديد من أجيال السكّان السود الكفاح حتى اليوم من أجل حفظ اللغة التي تجمعهم والتي كان على تسلسل التاريخ والمعرفة والهوية هذا أن يتعامل بها مع رفض الأغلبية مختلطة الأعراق والحكومات المتعاقبة لسنوات منحهم الجنسية الكوستاريكيّة رغم أنهم مولودون في هذا البلد.

قليلًا وستصبح الإسبانية جزءًا من ثقافة هذا المجتمع نظرًا لصعوبة البقاء منعزلين وحاجة وأهمية الانخراط في النظام التعليمي الكوستاريكي. كان الهدف أيضًا هو إحراز تقدم وجعل تعليمهم حقًا معترف به من قِبل النظام. اليوم يتحدث والديّ وآباء أصدقائي وصديقاتي الإسبانية بلكنة إنجليزية مميّزة، بينما يحفظ جيلي الإنجليزية كلغته الأم ولا يمتلك هذه اللكنة التي كانت جليّة فيما مضى عندما يتحدث الإسبانية.

أما عن الأجيال التالية من ذوي الأصول الأفريقية فلم تبقَ الإنجليزية بالضرورة لغتهم الأم. بالإضافة إلى أنّ وجود مدارس ومؤسسات مختلفة تتضمن فصولًا لتعليم الإنجليزية حاليًا جعل تحدّث هذه اللغة أكثر شيوعًا بحيث لم تعد تراثًا يخصّ ذوي الأصول الأفريقية كما كانت منذ ثلاثين عامًا.

في لحظة معينة لا أستطيع تذكّرها قرّر والديّ التوقف عن الحديث بالإنجليزية. لا أعرف حتى إن نجم ذلك عن قرارٍ واعٍ ومتفق عليه بينهما، ولكننا ببساطة كبرنا أنا وإخوتي وأخواتي غير قادرين على التحدث بالإنجليزية. كثيرًا ما أثار ذلك سخرية أصدقائنا من أصل أفريقي وجعلنا نشعر في أحيان كثيرة بأننا مستبعدين من العِرق الذي ارتبط غالبًا بالقدرة على تحدّث هذه اللغة.

تحدّث أغلب أصدقائنا الإنجليزية، لذلك كنّا استثناءًا.

كبرنا بينما نسمع والديّ يتواصلان بالإنجليزية معًا ومع الأعمام والعمّات والأصدقاء المقرّبين وأفراد العائلة الممتدة. لكنهما بالطبع لم يتواصلا بها معنا أبدًا. أميل إلى الاعتقاد أن السبب في ذلك يتعلق بانتقالنا إلى العاصمة حيث وجدنا أنفسنا أقليّة بشكل واضح، أو، ولست أكيدة، ربما كان ذلك محاولة خجول لحمايتنا بنفي واحد من الأسباب التي تجعلنا مختلفين.

هنا تحديدًا يبدأ الجزء الجديد من قصّتي.

مصادر

عدل