باسل الأعرج.. وصفة "المثقف الثائر" ضد الاحتلال

الأربعاء 8 مارس 2017



كعادتهم شهداء فلسطين يرفضون الرحيل، قبل أن يسطروا ملحمة بطولية، شعارهم "علو في الحياة.. علو في الممات"، يعملون بصمت طيلة سنوات حياتهم، تاركين جلبة الضجيج لأفعالهم ساعة الرحيل.

وصفوه بالمنظِّر والعميق والمفكر، فطالما كتب عن "القتال الفردي"، كبديل عن غياب الانتفاضات الجماعية، كما يعد صاحب فكرة "الاختفاء" و"المقاومة الفطرية"، تجبرك روحه الثائرة، أن تعود للمقالات التي كتبها الشهيد الصيدلاني، تبحث في معادلاتها وتركيباتها، تحاول تفكيكها، لعلك تصل إلى العمق والمدلول.

قرأ تجارب المقاومة الشعبية المسلحة في الجليل والمثلث زمان الاحتلال البريطاني، وأدرك أن "حرب العصابات"، هي الطريقة المثلى لاستنزاف العدو المحتل المعاصر، فنشط جماهيريا بالمظاهرات الشعبية الداعمة لمقاطعة "إسرائيل"، ومن أبرزها الاحتجاجات على زيارة وزير حرب جيش الاحتلال السابق "شاؤول موفاز" عام 2012م، وتعرض حينها للضرب من الأمن الفلسطيني، وأصيب على إثرها بجراح.

الشهيد باسل الأعرج، أتقن فن الحياة ليصنع أجمل معادلات الموت.. فذاك الباسل، وصفه جهاز الشاباك "الإسرائيلي"، بأنه "قائد الذراع العسكري للحراك الشبابي"، وقد نجح بالاختفاء مدة طويلة، كيف لا وهو من نظّر لفكرتها، كما رفض أن يسلم نفسه، رغم عشرات الاقتحامات لمنزله.

تفوق أكاديمي

عدل

تلك الروح الثائرة، طالما تسلحت بالعلم، وأدركت أن الحياة درس لابد من إلقائه، ولو كانت في ميدان النار، لأن ذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى مقام الشهادة، كان بإمكانه أن يكون من أوائل الأكاديميين الفلسطينيين في تخصص الصيدلة، وهو الخريج من أرقى الجامعات المصرية، ولكن العقل الجمعي الذي يمتلكه، كان يبحث دوما عن دواء ناجع للحالة الفلسطينية ككل، فخاض معركة طويلة مع الاعتقال السياسي ومطاردة الاحتلال، لينجح بنهاية المطاف بتقديم وصفة "الحياة والتحرير" لأبناء شعبه.

ينحدر "الأعرج" من بلدة الولجة قضاء بيت لحم، وهي إحدى أهم البؤر الساخنة في المقاومة الشعبية ضد الجدار والاستيطان في الضفة، وكان "باسل" أحد أهم شبابها الناشطين والمبادرين في مكافحة الاستيطان والجدار ومصادرة الأراضي.

ويعرف عن الأعرج انغماسه الكامل في كل تفاصيل المقاومة، وقد شارك في إعداد دراسة عن خصائص الشهداء منفذي عمليات الطعن والدهس في العامين الماضيين؛ وعندما نشر بعض الإعلاميين تقريرا عن الدراسة وتحدثوا معه بشأنها أجابهم "لقد تملكني هؤلاء الشباب وسكنوا بي.. ولا أستطيع الحديث عنهم بالكلام!"

وعمل الأعرج في مشروع لتوثيق أهم مراحل الثورة الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ضد الاحتلال البريطاني، وصولا للاحتلال "الإسرائيلي"، وذلك من خلال تنظيم رحلات ميدانية لمجموعات شبابية متنوعة للتعريف بها على أرض الواقع.

ومن أهم التدوينات المسجلة للأعرج، حديثه عن حرب العصابات بوصفها "قاطع طرق بمشروع سياسي، إضافة للمراحل التي مرت بها ثورة 1936، وفي كتيبة الجيش العراقي التي قاتلت في فلسطين عام 1948، ونموذج ريف مدينة جنين في المقاومة قديما وحديثا، وأهم عمليات المقاومة الحديثة عام 2002 في واد النصارى بمدينة الخليل".

يقول أحد أصدقائه: "صحيح أنهم اغتالوا مقتحم متجر "رامي ليفي" الاستيطاني، وقائد المسيرات والتظاهرات الملتزم، والمحرض والمحرك والمحور الشبابي الذي ضاقت كل الفصائل عن استقطابه، لكن روحه ما زالت ماثلة أمامنا، فالأجساد تفنى، ولكن الأفكار تبقى".

اختفاء الشبان الستة

عدل

وبدأت حكاية المشهد الأخير في (31-3-2016) حين اختفت آثار ستة شبان في مدينة رام الله في ظروف غامضة، واستمر البحث عنهم لأيام عديدة، قبل أن يعتقلهم جهاز مخابرات السلطة، وسط عمليات بحث وتفتيش مكثفة أيضا من جانب قوات الاحتلال.

واعتقلت أجهزة السلطة "الستة" في جبال رام الله، واتهمهم الاحتلال، بالتخطيط لتنفيذ عملية مشتركة ضد إحدى المستوطنات.

ونقل الأعرج ورفاقه بعد ذلك إلى سجن أريحا التابع للسلطة، ووجهت له تهمة التخطيط لمقاومة الاحتلال بالعمل العسكري، وأضرب عن الطعام ورفاقه الخمسة مطالبين بالإفراج عنهم، وحصلوا على قرار قضائي بالإفراج .

وبعد إضراب طويل، واعتقال لستة أشهر، أفرج عنهم من المخابرات في أريحا، ليتحول "باسل" بعد ذلك إلى مطارد من قوات الاحتلال، حيث اختفت آثاره إلى أن ارتقى شهيدا فجر اليوم، باقتحام منزل كان يتحصن به، في مخيم قدورة برام الله، بعد أن رفض الاستسلام، وخاض اشتباكا مسلحا، حتى آخر طلقة، ليرتقي شهيدا بعد ساعتين من المواجهة المباشرة مع الاحتلال.

وصية الشهيد

عدل

تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد.. إن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلبٍ سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء. لكَمْ من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها. لطالما حيرتني تلك الوصايا: مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.

أنا الآن أسير إلى حتفي راضياً مقتنعاً وجدت أجوبتي. يا ويلي ما أحمقني، وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد؟ كان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم. أما نحن ــ أهل القبور ــ فلا نبحث إلا عن رحمة الله.

مصادر

عدل