برغم الاختطاف مازالت سميرة حاضرًة في قلوب السوريين

الجمعة 2 أكتوبر 2015


هو محاطٌ بكوكبة من الأصدقاء الشباب، يستشيرونه في تفاصيل تعبهم الشخصي. كيف لا، وهو قد عاشها كلها، مراحل درب الجلجلة السوري، ولا يزال على قارعة انتظار القيامة، مسلحًا برجاٍء يشعرك بالخجل من ضعفك.

بدأت ما لا أعرف إن صح تسميتها صداقتنا، أو ربما أبوته الروحية لي ولكثر من أمثالي، بأن كنت أرسل له في بداية الثورة أسأله شيئًا كلما دُعيت إلى مؤتمر أو ندوة عامة. أنا التي لم تكن تدري أبسط قواعد العمل العام حينها كنت أستشيره دوماً بالتفاصيل، وغالبًا ما كنت أقتنع برأيه وأركن إليه. أرسل إليه مقالاتي المملوءة بالأخطاء الإملائية، كتلميذ في الابتدائية، ورغم فخامة لغته (التي كنت أحيانًا أناكفه بقولي: تعقيدها)، يقرأ ما أكتب ويشجع “كأب”. فيه كل التوجيه الأبوي الذي نشتاقه، وفينا كل ضجيج الشباب.

ياسين الحاج صالح، معلّم في الأمل… وهذه المقالة، إن صح التعبير، لا تتمحور حول مديح كتاباته أو شخصيته (وهو سلوك لا أدعي أنه يزعجني، لا بل على العكس) إنما هي محاولة فقط لنقل ما يلهمنا للآخرين، محاولة لنخبر العالم بتلك القصة التي، على ألمها، لا تزال ترسل تلك الرسالة بصرخٍة عالية: إن كان يستطيع بعد هذا كله أن يبتسم في وجه الأمل، فما حجتك أنت؟

ياسين الذي اعتُقل في التاسعة عشرة من عمره ليقضي ستة عشر عاماً في السجن، كان من أوائل الذين كتبوا مع الثورة السورية وعايشوها. له بعض غرابات السلوكيات الاجتماعية التي هي من ميراث سنوات السجن الطويلة، وعندما تواجهه بها، يبتسم ببساطة ويجيب: “سميرة… نقطة قوتها كانت العلاقات الاجتماعية، سميرة هي التي كانت تجمع الناس حولنا”.

هذا ما تدور حوله هذه المقالة ربما، حبه لسميرة، زوجته سميرة التي اختطفها “جيش الإسلام” بقيادة زهران علوش في الغوطة، مع رفاقها رزان ووائل وناظم، وما تزال حتى اللحظة يغيبها مجنون ما دون أدنى أثر.

في بيته المُستأجر الذي يروي لك كلما زرته بفخر إنسانيّ جميل قصة حب صاحبته لزوجها اليوناني المُقْعد، لا شيء تغيّر عن الحالة التي استأجره فيها، لا إضافات شخصية، إلا مجموعة كتبه العربية وصورة مرسومة لسميرة يستطيع مطالعتها دومًا من مكتبه. يستحيل أن تغيب عن أحاديثه، عن كتابته، عن تفاصيل يومه. يحاول إشراكنا غيابها ليرسم لها حضورًا في ذاكرة السوريين. نحفظ عيد ميلادها، ويؤرقنا شعوره بالذنب على غيابها، ويتآكلنا شعور بالعجز. هل خذلناه مجددًا كسوريين؟

نراها في غضبه المنتج وشوقه وقد استحال دفاعًا شرسًا عن حقه بأن يكونا معًا، وبأبوته لي. كلما لمحت الغصة في عينيه أشعر أن غياب سميرة عن حياتنا هو أن أفقد أمي في الثورة السورية مرتين! غدًا عندما تعود سميرة، ولا نجرؤ جميعًا أن نفكّر بأنها قد لا تعود، ستتفاجأ من كم السوريين والسوريات الذين كادوا أن يحفظوا إيقاع حضورها، وهي لا تعرفهم. وبرغم السؤال المؤلم عن مكانها واختفاء أخيه في أقبية داعش، رغم المنفى وذاكرة السجن لا يزال حتى اليوم يكتب لنا عن الأخلاق، عن الأمل، لا يزال حتى اليوم يعلمّنا كيف يستطيع الخاطفون أن يغيروا مجرى حياتنا، لكن ما نحياه في داخل قلوبنا هو محض إرادتنا.

حبه لها لا يغيّره الغياب ولا الذنب، ولا وقاحة الخاطفين. حبه لها لا يعكّر صفوه الاتهامات والإشاعات. حبه لها يجبرنا كسوريين أن نقف على حافة الألم قربه لنتمنى لهما بداية سعيدة… لنغمض أعيننا على رجاء أن تعود سميرة، ورزان ووائل وناظم، ليطالبوا، كما كانوا دومًا، بحقوق المعتقلين والنساء والمضطهدين… ليُنشِئوا، سويًا ربما، تيارًا للدفاع عن ضحايا الاختفاء القسري.

مصادر

عدل