بعد شعوره بالأمان في ألمانيا، لاجىء سوري يتعلم كيف يبتسم مجددًا
الأثنين 13 يونيو 2016
رغم كثرة ما كُتب عن اللاجئين في العامين الماضيين، إلا أنّ ما نسمعه منهم أنفسهم لا يتجاوز بضعة عبارات في مؤتمرٍ أو نشرةٍ إخبارية. “جلوبال بوست” مؤسسة إخبارية دولية، بادرت بنشر مقالات لخمسة شباب سوريين، أخذوا قراراتٍ صعبة بمغادرة أوطانهم، وتحملوا مسؤولية رحلة محفوفة بالمخاطر من بيوتهم إلى تركيا واليونان وصولًا إلى أوروبا الجنوبية.
نشر هذا المقال لحسن جاموس بالأصل على PRI.org في 31 مايو/أيار 2016 ونعيد نشره هنا بموافقة من الموقع.
“أسرع! أخيرًا أنا في ألمانيا. اخرجوا من الشاحنة. هكذا صاح المهرب. نحن الآن في ميونخ. لم أُعر مكان تواجدنا اهتمامًا، كنت أريد الخروج سريعًا من تلك الشاحنة المخصصة لنقل الدجاج فقط. أخذت نفسًا عميقًا ونظرت حولي. سألت نفسي: هل نحن بالفعل في ألمانيا؟. كان الوقت صباحًا ولم أر أيّ أحد. بدأ العشرون سوريًا الآخرون المرافقين لي بتغيير ثيابهم على عجل. لم يكن لديّ ثياب صالحة حقًا، بنطال جينز متسخ، وجاكيت قبيح. كنت في حيرةٍ من أمري. توقعت أن يحضر رجال الأمن ويلقون القبض علينا في أي وقت.
حتى هذه اللحظة، كنت فقط أُحاول أن أستمتع بالهدوء، والهواء النظيف بعد رحلةٍ طويلةٍ وصاخبة. لم أكن أعرف أيًا من اللاجئين الآخرين المرافقين لي. فقد تقابلنا لأول مرة خلف منزل المهرّب في بودابست. قال سائق الشاحنة “انتظروا خمس عشرة دقيقة، ثم اذهبوا بعيدًا”. وقاد سيارته مسرعًا انتظرنا ثم قررت البحث عن أول ضابط شرطة يمكن العثور عليه في الطريق.
“لم يعد لي بيت، ولا مطبخ أجلس فيه مع عائلتي بانتظار انتهاء أمي من تحضير الطعام. الآن، هذه هي حياتي الجديدة والمؤقتة”.
ثم لاحظت شابين وصبي صغير ينظرون إليّ. كانوا كذلك من دمشق. سألني كبيرهم “من أين أنت؟”. أجبته: دمشق. “هل تتحدث الإنجليزية؟”. قلت: أعرف منها القليل. “نحن في طريقنا إلى مدينة تدعى ساربروكن. قالوا أنّ الناس هناك لطفاء للغاية، كما أنّ الإجراءات هناك أسرع بالنسبة لللاجئين.” فكرت ثم قلت: ولمَ لا؟.
أوقفنا مركَبة، وأبلغنا سائقها بالإنجليزية عن رغبتنا في الذهاب إلى محطة الباصات الرئيسية. قال لنا:”لا مشكلة”. ” لكن هل معكم نقود؟” أجبتُ بضحكة عالية: “نعم معنا”. “بدا عليه أنه عرف، بأنها ساعتنا الأولى هنا في ألمانيا. ربما بسبب لون بشرتنا.” في الطريق، نظرت عبر النافذة إلى هذه الأرض الجميلة. وتساءلت: أيمكنني أن أبني مستقبلاً هنا؟”. أيمكنني التكيف مع هذه الأرض كوطنٍ ثان؟. قاطعني صوت السائق: “نحن هنا”.
أخذنا أول باص متجه إلى ساربروكن. ركبنا ست ساعات. قضيت أغلبها نائمًا كطفل. كنت في غاية الجوع والإرهاق. كان هناك مخيّم للاجئين في المدينة، رأيت جنسياتٍ كثيرة فيه، ليس فقط السوريون. كان هناك كثير من صفوف الانتظار والضوضاء. أعطونا بعض الطعام، وأرسلونا إلى الغرفة. أكلتُ سريعًا، ونمت.
كان أول يوم كامل لي في ساربروكن شاقًا. فقد كان عليّ أن أنتظر في طوابير من أجل الطعام والأوراق. كان عليّ ان أتأقلم مع الوضع. أنا الذي لم يعد لي بيت، ولا مطبخ أجلس فيه مع عائلتي بانتظار انتهاء أمي من تحضير الطعام. الآن، هذه هي حياتي الجديدة والمؤقتة. بعد حوالي أُسبوع، نقلوني إلى مخيّمٍ آخر. لم أعرف لماذا. سألت الموظفة المسؤولة، وقالت بلطف: هذا طبيعي هنا في ألمانيا. سوف تُنقل إلى مخيّم آخر في ترير. هكذا أخبرتني. كانت لها ابتسامة شديدة الجمال.
أعطونا تذاكر قطار وخريطة. أثناء الرحلة، كنت أنظر إلى وجوه الألمان في القطار متسائلاً: “هل ُمرحبٌ بي هنا؟” لم أشعر بالراحة. كان كل شيء جديدًا، لقد شعرت بالضعف. كان مخيّم ترير أصغر حجمًا ويحوي عددًا أكبر من المخيّم الآخر. لا مكان للنوم. أمضينا أول ليلة في المدخل. ثم نُقلنا مجددًا. لم يكن لهذا المخيم مساحة كافية. كنت شديد التعب من السفر. كنت أريد أن أستقر في مكانٍ واحد. عاملَنا الجميع بلطف. هناك ابتسامات واسعة في كل مكان. كانت مهمتهم من الصعوبة بمكان. ظننت أن الناس سيكرهون وجودنا هنا.
كان يتحتّم عليّ دوماً الانتظار لوقت طويل؛ كي أستقل الباص أو الطعام أو الاستحمام. لا يمكنك إقامة صداقات حقيقية في المخيّمات. لاتعلم من سيذهب، ومن سيبقى. فقط عليك الانتظار كي يتم نقلك لمنزل؛ إن كنت محظوظًا.
مع حلول اليوم الثامن والعشرين لي في ألمانيا، اعتدت على الحياة في المخيّمات. طوّرتُ استراتيجيات؛ كي أحصل على الطعام. حاول الناس تناسي الأوضاع والمضيّ قدمًا. كانوا يمارسون الرياضة ليروّحوا عن أنفسهم. تصوّرت أنّ الأطفال سعداء حقًا. إذ كانوا يلعبون طيلة الوقت، ويجرون، ويتنازعون. كان مشهدًا يصعب أن تراه في سوريا فيما بعد. كنت أنام في خيمة مع 200 آخرين. كان الخلود إلى النوم الأكثر صعوبة، هناك دومًا شخص ما يفعل شيئًا ما، محدثًا جلبةً أوضجيجًا، كبكاء الأطفال، وضحكات السكارى.
في النهاية، نقلوني إلى منزل بمدينة صغيرة، تدعى ستادكن-الشيم. لم أُعر اسم المكان اهتمامًا، فقد تركز جُل اهتمامي على الخروج من المخيّم. كنت أفكر حقًا في غرفة جميلة ووجبة شهية أعدها لنفسي. تلك كانت أحلامي آنذاك. في يوم الانتقال، استيقظت في السادسة صباحًا. غمرتني السعادة للمرة الأولى مرة خلال شهور حين قالوا لنا في المخيّم “مع السلامة” بطريقةٍ ملؤها اللطف. وصل الباص وقلتُ في نفسي”مع السلامة” أيها المخيّم، وكان يحدوني الأمل بعدم العودة إلى هذا المكان ثانيةً.
أوصلوا المجموعة، التي انتقلت إلى ستادكن-الشيم، إلى المجلس البلدي في البداية، حيث سجلنا أسمائنا. كان الموظفون باسمين، ولطفاء للغاية أيضًا. أبلغونا بالإنجليزية، أن ستة أشخاص سيعيشون بالمسكن، حتى نحصل على تصاريح الإقامة لثلاث سنوات. كان هذا أمرًا مرحبًّا به، فالعيش مع خمسة خير من العيش مع 200. لم أُشاهد أحدًا في الطريق، لكن أحسست بأن لا أحد يعلم بوجهتنا. يومًا بعد آخر، أصبحتُ أكثر ثقة. ساعدتُ زملائي بالغرفة، عندما أرادوا الذهاب إلى الأطباء وعيادات الأسنان. في البداية، كنت خجلاً من الحديث مع الألمان. لكن حيثما كنت، رأيت الإبتسامات.
“يبدو لي، أن الجميع يبتسم لنا هنا، لكننا لا نبتسم. “كأننا نسينا كيف نفعل هذا. في النهاية، لست بحاجة إلى طعام أو مال أو حتى بلد آمن. كل ما أحتاجه، ابتسامة جميلة صادقة”.
في أحد الأيام، جاءت متطوعة لتعاوننا في كل شيء. كانت تعلّمنا الألمانية، وكنا نناديها “ميجي”. أسميتها في قلبي بأمي الألمانية. أنا مدين لها بالكثير. يبدو لي، أنّ الجميع يبتسم لنا هنا، لكننا لانبتسم. كأننا نسينا كيف نفعل هذا. في النهاية، لست بحاجة إلى طعام أو مال أو حتى بلد آمن. كل ما أحتاجه، إبتسامة جميلة صادقة.
بعد الانتظار لعشرة أشهر، تسلمت تصريح الإقامة. الآن، أصبح مسموحًا لي البقاء لثلاث سنوات بهدف العمل والدراسة. مازلت في حالٍ تحتم عليّ العمل مستخدمًا مهاراتي اللغوية.
الطريق إلى المستقبل طويل. لم أشعر بالضعف في أي وقت، رغم شعوري بالألم في كل مرة أستمع فيها إلى الأخبار. خلقنا بعض المشاكل في أوروبا. أشعر بالألم عندما أرى أطرافًا سياسية جديدة تحصل على مكاسب، وتصبح أقوى بسببنا. أعدادنا كبيرة على التلفاز. يدّعون أن غالبيتنا، لم تتلق تعليمًا كافيًا، أو أننا متطرفون. هذا هو ثمن قبولنا ما حدث في سوريا.
لكنني إنسان، له أحلام كبرى، وسأعمل جاهدًا على تحقيقها.
اقرأ أيضًا المقال الأول من السلسلة: قرار مؤلم يتخذه شاب فلسطيني سوري بهجرة وطنه
مصادر
عدل- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «بعد شعوره بالأمان في ألمانيا، لاجىء سوري يتعلم كيف يبتسم مجددًا». الأصوات العالمية. 13 يونيو - حزيران 2016.
شارك الخبر:
|