ثلاث سنوات مرّت على مجزرة رابعة في القاهرة: رائحة الموت ما زالت تفوح

الثالث 16 أغسطس 2016


درست في الحرم الجامعي الذي اعتدت سماع إطلاق النار فيه أكثر من صخب الطلاب. كانت رؤية قناصي الجيش المدججين بأسلحتهم النارية غير مألوفة بالنسبة لي، بالإضافة إلى الاحتجاجات العارمة تحت قبة جامعة القاهرة.

كنت قد دخلت إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بعد ثمانية أشهر على بدء الثورة المصرية. في وقت كان يطبعه تغييرًا تاريخيًا، وحيث كانت جامعة القاهرة مكانًا لمجموعات طلابية ذات توجهات سياسية كبيرة ومختلفة في محاكاة للمشهد السياسي المتوتر في بلاد الفراعنة.

لم يسبق لي أبدًا أن كنت شاهدة على مناخ غاضب ومشحون سياسيًا كهذا أو كالاحتجاجات الطلابية التي سادت في أعقاب تفريق اعتصام رابعة العدوية – ما يسمّى اليوم بمجزرة رابعة. رأيت الرصاص الحي يطلق على الباب الرئيسي، وسيارات الإسعاف في الحرم الجامعي، وكميات هائلة من الغاز المسيل للدموع تلقى على المسيرات الاحتجاجية التي كانت تدين الأفعال الدامية لقوات الأمن المصرية في ميدان رابعة العدوية.

وفي وقت مبكر من صباح يوم 14 أغسطس/آب 2013 تم إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء مصر، حيث فرقت قوات الأمن بعنف الاعتصامات التي أقامها أنصار جماعة الإخوان المسلمين ردًا على الانقلاب على الرئيس السابق محمد مرسي، أول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي والقيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين، حيث تم قتل أكثر من 1000 مدني في يوم واحد. وكان اعتصام ميدان رابعة العدوية أحد أكبر الاعتصامات التي تم استهدافها من طرف قوات الأمن. حيث شهد إطلاقًا للنار، واستعمالًا لجرافات مدرعة، بالإضافة إلى تحليق طائرات هليكوبتر فوق مكان الحادث.

لقد كانت ساحة حرب.

حيث استهدف إطلاق نار كثيف المستشفى الميداني الطبي وهرع المواطنون لسحب الجثث حتى لا تحترق بالنار، وظلّ الأطباء يواصلون محاولات الإنقاذ حتى اللحظة الأخيرة.

وأتذكر شريط فيديو لطبيب وهو يصرخ: “انفجر الصدر وانفجر الرأس وخرج الدماغ إلى الخارج. انتهى كل شيء، ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟”.

لم أكن هناك.

لم أمرّ هناك، لكنني رأيت بعض اللقطات. ورأيت صورًا ظلّت منحوتة في ذاكرتي منذ تلك اللحظة. صورًا لخيام وهي تحترق ولملابس ملطخة بالدماء ولأمهات ينتحبّن. رأيت فتاة صغيرة تبكي مستلقية على صدر أخيها بينما يفارق الحياة.

لم أكن هناك، لكنني رأيت صديقتي المقرّبة وهي تبكي ابنة عمها التي أصيبت برصاصة في رقبتها. أتذكر صوتها المرتجف عبر الهاتف وهي تقول بأنهم لا يستطيعون العثور على جثثها بين الجثث الأخرى. وأتذكر صوت الصراخ من حولها.

لم أكن هناك، لكنني رأيت طابورًا من جثث وضعت في أكفان بيضاء في مسجد القاهرة، في انتظار قدوم من يتعرف عليها من الأقرباء، في مشهد بدا كأنه مقبرة ما بعد معركة، حيث وضعت كتل الجليد فوق الجثث واستعملت المروحيات الهوائية لتبديد رائحة الجثث التي بدأت تتحلل.

لم أكن هناك، لكني رأيت أمًا تتفحص وجوه الجثث في المشرحة، في محاولة للبحث عن ابنها بين الأجساد المحترقة والتي أطلق عليها النار.

لم أكن هناك، ولكن أخبارًا كانت قد وصلتني تفيد بأن زميلًا لي من أيام الدراسة كان قد قتل بالرصاص وهو يحاول الهرب من المنطقة الجنوبية للمخيم.

في ذلك الوقت، كنت هناك.

كنت هناك أراقب مباركة المحسوبين على وسائل الإعلام لأعمال القتل هذه والاستبداد والقمع والإبادة الجماعية في حق أولئك الذين لم يقبلوا بالأجندات السياسية المتشددة. كنت هناك عندما سُمّيَّ القتلى “إرهابيين” وأصبح القتلة “منقذين”.

لقد عشت ذلك كله.

يبدو الميدان اليوم كمشهد من مشاهد الحياة الصاخبة في القاهرة. فاليوم، لا أحد يتذكر أنه للعبور للطرف الآخر من الشارع كان لزامًا عليه أن يفعل ذلك تحت وطأة نيران القناصة.

مازال صدى صوت إطلاق النار يتردد في أذني كل مرة أعبر فيها هذه المنطقة. فالمشهد الممل والمتهور للسيارات الممتلئة بالناس يعيد إحياء هذه الذكرى في الأذهان، ويذكرني باستنشاق الغاز المسيل للدموع. أمّا تمثال اليدين هذا الذي يمثل الشرطة والجيش يبدو مغطّىً بالدماء.

خواطري كلّها منشغلة بضحايا مجزرة رابعة؛ فرائحة الموت مازالت تفوح.

صورة العرض: قناة الجزيرة الإخبارية عن تقرير: الأمن يقتل العشرات في مصر.

مصادر عدل