زمن التَّطرف المعتدل قد ولّى

الأحد 17 أبريل 2016


نتيجةً للاعتدائين الذين حصدا حياة 30 شخص على الأقل صباح يوم السبت 22 مارس/آذار في بروكسل، صُعق سكان أوروبا بسبب عودة انتشار التّطرف في المكان الذي كان يومًا الأكثر أمنًا في العالم. في الأعوام القليلة الماضية، كانت الهجمات الانتحارية بالقنابل المتفجرة تحدث بمعظمها في الشرق الأوسط، وبالكاد كانت أخبار تلك الهجمات تصل إلى مسامع سكان البلدان المتحضرة في العالم. ومع ذلك، في أيامنا هذه أصبح الرعب عالميًا، فغدى النقطة القاتمة الضعيفة والمظلمة في العولمة التي تهدد الغنيّ والفقير، المسلم والملحد، البلجيكيّ والتركيّ. دون أملٍ للهدنة في الأفق.

انفجار 13 مارس/ آذار الذي أودى بحياة 35 شخصًا في أنقرة، تركيّة، جعلني أعيد التفكير في ازدواجية المعايير. نحن الذين نتمتع بإمكانية الحياة في المناطق المزدهرة نسبيًّا والمتحضّرة من هذا العالم، لسنا حساسين كفاية كما كنا نظن حيال الظلم الواضح ماوراء حدوددنا. أنا مواطنةٌ تركية تحضّر لرسالة الماجستير في روما، أقيم بهذه المدينة الأثرية منذ سبتمبر/ أيلول 2015، وخلال هذه المدة كونتُ صداقاتٍ مع أشخاصٍ من إيطاليا وألمانيا وجورجيا والبيرو وفرنسا والعديد من الدول الأخرى. لديّ ذكرياتٌ حيّة عن ليلة 13نوفمبر/تشرين الثاني، الليلة التي وقعت فيها الاعتداءات الإرهابية وأودت بحياة 130 شخص في باريس.

«النص الأصلي:“هذا الدعم الغير محدود كان غائبًا عقب الاعتداءات التي ارتكبت في بداية مارس/آذار من قبل التجمع الوطني الكردي أو (صقور حرية كردستان) ( TAK) في أنقرة. تصفحت مواقع أصدقائي على فيسبوك لم يقم أيّ منهم باستبدال صورته الشخصية ووضع علم تركيا…”»

كنت مع مجموعةٍ من الأصدقاء على وشك الخروج عندما وصلتنا الأخبار تلك الليلة، زملاءٌ آخرون لم يتمكنوا من الحضور لأنّ لديهم أصدقاء يقفون دون حراكٍ وسط باريس أو بالأحرى كانوا خائفين من أن تتكرّر الاعتداءات في كامل أوروبا. وأنا كذلك شعرت بالخوف الشديد، بالنسبة لنا نحن الذين قررنا الخروج، خيم الحادث سهرتنا بالسواد، وطغى موضوع الاعتداءات على أحاديثنا تلك الليلة. واستمر هذا الجو في الأيام التالية على هذا النحو.أظهر أشخاصٌ من جميع أنحاء العالم دعمهم وتضامنهم مع الشعب الباريسيّ و وضع مستخدمو فيسبوك علم فرنسا على صورهم الشخصية، على أنّ هذا الدّعم وبشكلٍ يثير الاستغراب كان غائبًا إثر الاعتداءات التي ارتكبها (صقور حرية كردستان) ( TAK) في أنقرة أوائل مارس/ آذار. تفحصتُ صفحات أصدقائي على فيسبوك، لم يقم أيٌّ منهم بتزين صورته الشخصية بعلم تركيا، (لست بالضرورة من أنصار هذا الشكل من أشكال الدعم)، أو حتى بمشاركة أخبار أو بكتابة شيءٍ ما حول الأحداث.

في اليوم التالي للاعتداء، لم يسألني أحدٌرمن زملائي في مشروع الماجستير بخصوص أصدقائي وأقاربي في تركيا. لم يكن هناك وسمٌ عالمي في تويتر يدين هذا الحادث المروع. وعندما تمعنت في ملامحهم لما قمت بمشاركته على مواقعي الخاصة، كان الشيء الوحيد الذي لاحظته هو اللامبالاة. في الحقيقة شعرت بالانزعاج كما لو أن واحدًا من العناصر الأكثر أهمية في هويتي أو حتى وجودي ككل قد أُهمل بشكلٍ متعمّد، حياة عائلتي وأصدقائي والأشخاص المقربين الذين يعيشون داخل حدود بلدي الأصلي، لم يعنوا شيئًا بالنسبة للأشخاص في البلد الذي أعيش وأدرس فيه. تأكدت بعدها بأنّ المساعدة المالية التي قدمها الاتحاد الأوروبي إلى تركيا والتي بلغت ثلاثة مليار يورو بغرض “إنشاء منطقة عازلة للاجئين”، شكلت فائدةً عظيمةً للكثير من الأوربيين ممن يتفاعلون فقط حيال الأشخاص الذين يلقون حتفهم في اعتداءات إرهابية داخل حدود أوروبا. شعرتُ بالأسف لأجلهم “تذكرت اللامبالاة التي يظهرها أشخاصّ في بلدي الأصلي والذين يقطنون المناطق الأكثر ازدهارًا حيال انتهاكات حقوق الإنسان المنتشرة على نطاقٍ واسعٍ في تركيا، في مناطق يعتبرونها غير آمنةٍ ومتأخرة”

«النص الأصلي:” تذكرت اللامبالاة التي يظهرها أشخاصّ في بلدي الأصلي والذين يقطنون المناطق الأكثر ازدهارًا حيال انتهاكات حقوق الإنسان المنتشرة على نطاقٍ واسعٍ في تركيا، في مناطق يعتبرونها غير آمنةٍ ومتأخرة…”»

شعرت بالعار من أولئك الرفاق الذين مازالوا يظهرون الدعم الأعمى لسياسة الزعيم الطموح والجشع والذي لم تشهد تركيا مثيلاً له على الإطلاق، متجاهلين مسؤوليته وإسهامه في ارتفاع معدلات العنف ضدّ المدنيين الذين يعيشون تحت حظر التجوال الذي فرضته الحكومة في مناطق كجزيرة ابن عمر وسور (في مدينة دياربكر) ومقاطعاتٍ أخرى في المنطقة الكردية من البلاد.

منحت الانتخابات التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 حزب العدالة والتنمية الحاكم (AKP) ولاية جديدة برئاسة رجب طيب أوردغان، وأُجريت وسط جوٍّ من الخوف ومجازر محتملة أو(احتمالات سفك للدماء)، وقد استشعر هذا الجو المتوتر في تصريحات الحزب حيث أكد أنّ السلام والاستقرار لن يتحققا إلا باستمرار إدارته للبلاد. هذا الحزب الذي أرعب الناخبين وأخافهم في حين سمح لنزاعٍ حُسم منذ عقود أن يعود للظهور بعد سنواتٍ من السلام. كما وكوفئ جميع من أعطوا أصواتهم للحزب. وحاليًا ترزح أكبر المدن غرب تركيا تحت تهديد اعتداءاتٍ منظمة من قبل ما يدعى بالجماعات الكردية TAK.

الاعتداءات التي نفذتها الجماعات الكردية TAK في أنقرة بعد ثلاثة أسابيع من أحداث باريس حصدت حياة 65 شخص.

وفي مقابلة أجريت حديثًا على قناة BBC باللغة التركية، كشف المتحدث باسم (KCK) أو ما يعرف باتحاد شعوب كردستان وهو تنظيم أسسه حزب العمال الكردستاني (PKK)، عن أن هذا الأخير يخطط للقيام باعتداءاتٍ غرب تركيا في الأشهر المقبلة. وهكذا كلما تضاعف عدد الضحايا في المناطق الكردية ستزداد احتمالات تنفيذ عملياتٍ انتحارية في أنقرة واستانبول. وأيضًا كلما عظمت موجة العنف في الشرق الأوسط ستضعف الدّول الأوروبية أمام الاعتداءات. زمن التَّطرف المعتدل قد ولّى، والعنف يمكن أن يصل إلى كل مكان.

تجاوز اللامبالاة:

حتى وإن قام المواطنون الذين اعتادوا الحياة المستقرة والامتيازات بإغلاق أعينهم عما يجري في دائرة الخطر والعنف الذي يُختبر يوميًا في أجزاء أخرى من العالم، فإن انتشار الاعتداءات ووصولها إلى المناطق التي تُعد آمنة هو أمر لا يمكن تجنبه. أولئك الأشخاص الذين لا يفكرون ولو للحظات في التساؤل حول الوحشية المفرطة التي تمارسها القوات التركية في المناطق الشرقية المأهولة من قبل الأكراد. لا يجب أن ينزعجوا إذا ما وصل عنفٌ مماثل إلى الأماكن التي يدعونها “منازلهم”. وهذا يعني أنه طالما بقي الأشخاص في الغرب لا يعرفون شيئًا عن سفك الدماء الحاصل (إن كان من قبل القوات القادمة من بلادهم أو من قبل جماعاتٍ متطرفة مثل داعش) فإن لهب هذه الفوضى سيستمر بالانتشار والتمدد.

«النص الأصلي:“بعد الاعتداء الانتحاري في تقسيم وسط استانبول، لم أجرؤ، مثل ملايين آخرين من سكان المدينة على الخروج… يفترض أن المنزل هو المكان الذي يُشعرك بالأمان، لكن الشعور الذي انتابني حقيقةً كان الخوف والإحساس بأنني عالقة ومحاصرة “»

كتبت الكاتبة الإنكليزية أنطونيا فراسير أنّه: “بقدر ما تُعذب الآخرين، في النهاية سوف تتقيء إرهابًا”. على الأشخاص الذين ينعمون بالازدهار والحضارة في المناطق الأكثر أمنًا وسعادة في العالم أن يجهروا بأصواتهم ضدّ القمع المنتشر في بقية بقاع الأرض. وعوضًا أن يقوم الغرب باتباع منهجٍ عنصريّ وفارغ حيال المهجّرين الراغبين باللجوء إلى أوروبا، عليهم الحديث حول سياسات الحرب التي تتبعها حكوماتهم والتي تلعب دورًا مفصليّا في الكارثة المستمرة في سورية. ضمر الكره تجاه أولئك الهاربين من وحشيّة بلادهم ليس هو الحل. تعزيز مشاركة المجتمع المدنيّ في عملية اتخاذ القرارات السياسية هو العامل الأكثر فاعلية في إيجاد الحلول الأفضل لجميع الأطراف. خلال عطلة الأسبوع الماضي كنت في استانبول بغرض زيارة أصدقاء لم أرهم منذ ستة أشهر، كنت متشوقةً للعودة إلى المنزل للاستمتاع وسط جٍّو عائلي بمشهد البوسفور وبقيّة الأشياء التي افتقدتها خلال مدة إقامتي في الخارج. لكن بعد ذلك الاعتداء في تقسيم لم أجرؤ على الخروج كملايين غيري من سكان المدينة، ولهذا لم أستطع زيارة الكثير من الأصدقاء. يفترض أنّ المنزل هو المكان الذي يُشعرك بالأمان لكنّ الشعور الذي انتابني حقيقةً كان الخوف والإحساس بأني عالقة ومحاصرة. لا أتمنى تجربة شيء مشابهٍ في روما، ولا أريد أن يتعرض أحبائي والأشخاص المقربين مني لتهديدات كهذه. فكري وقلبي مع أصدقائي ومع جميع الذين يعيشون في بروكسل، أشعر بخوفهم وألمهم العميق، أمنيتي أن نملك جميعًا ذات المشاعر حيال كل حادث يقع بهذه الوحشية المتفاقمة، وأن نحتجّ ضدّها في أيّ مكان نتواجد فيه.

مصادر عدل