سوريا: بيوت
الجمعة 26 سبتمبر 2014
هذا المقال جزء من سلسلة خاصة من المقالات بقلم المدونة والناشطة مرسيل شحوارو، واصفة حقيقة الحياة في سوريا تحت نير الصدام المسلح بين القوات النظامية وكتائب الجيش الحر.
قلة من السوريين لم تختبر معنى النزوح مجبرين من مكان لآخر، معنى التخلي عن الذاكرة الملموسة لتجتر ذكرياتها مرارًا ومرارًا حتى تهترئ. ومثل كثير من السوريين لي قصة مع البيوت، وعليّ أن أتبع ذلك بـ”لحسن الحظ”، فهناك مئات الآلاف أصبحت الخيمة الباردة جلّ ما يملكون.
طيلة حياتي السابقة “وأقصد حتمًا السابقة للثورة” عشت في منزل واحد، منزل عائلي واحد. انتقل إليه والداي و أمي حاملٌ بي في حيَ يعتبر من الأحياء الراقية في مدينة حلب، بيت صغير عشت فيه لثمان وعشرين عامًا تقاسمت في معظمها غرفتي مع أختي الكبرى. في بيتنا يحتل اللون الأخضر تفاصيل كل شي تقريبًا، أمي المولعة بهذا اللون قد غزت به غرفة نومنا، أغطيتنا الصيفية والشتوية، حمامنا، مطبخنا، ومعظم تفاصيل الديكورات الصغيرة. أما أنا وأبي فقد تنافسنا حول مساحة المكتبات التي سنأخذها من كل الغرف. ثمان وعشرين عامًا وأنا أحيا في المنزل ذاته ومنه استقيت عادات غريبة في النوم حتى في أكثر الأوقات ضجيجًا بسبب اعتيادي على الازدحام في الشارع الذي يقع به بيتنا.
غادرته قبل ما يقارب العامين لدراسة الماجستير في انجلترا، حزمت حقيبتين كبيرتين من الثياب فقط وقلت لنفسي أنني سأعود إليه لاصطحاب أغراض أكثر بالتدريج، وكم كنت مخطئة. فبعد سفري بقليل، أصبحت في عداد مئات الآلاف المطلوبين للأفرع الأمنية بسبب نشاطهم السياسي. زار الأمن منزلنا مرتين و”الحمد لله” أنهم لم يجدوا أحدًا هناك. لكن ذلك جعل من ذهابي إلى منزلنا ضربًا من المخاطرة المجنونة التي ترقى إلى مستوى الانتحار. وقبل أن ترحل أختي الكبرى هي بدورها إلى تركيا (بسبب الخطر الأمني الذي سببه لها كونها “أختي”)، قامت بتخزين كل ما يمثل حياتنا، صورنا، كتبنا، صور أهلي والتي هي جل ما تبقى لنا منهم، رسائل الحب بينهما، ثيابهما، ثيابنا، ألعاب طفولتنا، أشياء منزلنا الخضراء، الأشياء الأنثوية التي اشترتها لي أمي يوم كان لديها أمل أنني قد أتجوز يوما ما، ساعة والدي التي وعدت نفسي أنني سأهديها للرجل الذي أحبه بمقدار ما أحببت والدي، ورغم أنني وجدت ذاك الرجل أخيرًا لكنني خللت بالوعد، فالساعة تقبع في صندوق ما هناك مع نسخ من كتابي الذي نشرته ولا أمتلك منه اليوم حتى نسخة واحدة.
حياتي السابقة بأكملها مكدسة في صناديق، صناديق لا تفضح ما تخفيه. ومثلنا تنتظر صناديقنا فرصة للانعتاق أو الاحتراق بقذيفة عدّو أو صديق لا فرق. أو ربما تنتهك ككل شيء في هذا الوطن فيسرقها مجنون ما متمترس وراء سلاحه.
وبعد تلك الثمان والعشرين سنة، تغيرت تجربتي مع البيوت كليًّا لأنام في ما يقارب الخمسين منزلًا في السنتين الأخيرات. في الإجازة الأولى لعيد الميلاد منذ عامين، كنا نعرف تمامًا أنني مطلوبة للأمن ولكنني خاطرت بالعودة تهريبًا إلى مدينتي حلب. وللتواري عن قوات الأمن نمت في عشرين منزل مختلف، كل يوم منزل جديد. أقابل أختي سرًا لدى الأصدقاء. أقبل أولادها بالصدفة لا أعرف كيف أفسر لهم حالتي الخفية وأهمية ألا يخبروا أحدًا بأنهم رأوني. كل يوم انتقل مع حقيبة ملابسي وحاسوبي ” الذي عليه ألا يحتوي أي شي قد يدينني على حواجز النظام” من منزل إلى آخر، تلحقني أعين أهالي أصدقائي المستغربة حينًا والخائفة معظم الأحيان. ومعهم في ذلك كل الحق. وبالنهاية لم يفلح كل هذا التنقل في تخفيف الخطر الأمني، بل أصبحت زياراتي الليلية لبيوت الأصدقاء سببًا لاستدعائهم للتحقيق هم أيضًا، ويومها قررت أنني لن أعود إلى ذاك الجزء من المدينة، سأترك ورائي كل الذين أحببتهم لأبدأ حياة جديدة في الجزء الآخر من المدينة المحرر بقوات من الجيش الحر.
هناك كانت للبيوت تحديات أخرى جديدة، هناك في حلب المحررة لا أملك عائلة ولا حتى أقارب بعيدين ويومها لم أملك حتى أصدقاء مقربين. صبيةٌ أبحث عن بيت لأسكن وحدي، انا المختلفة باللباس والدين. الامرأة غير المسلحة في ظل انتشار السلاح بأيدي كثيرين ممن قد يسيئون استخدامه. مخاوف جديدة عليّ أن أحياها كناشطة أنثى تختار أن تحيا وحيدة، يومها كان الصدام الأول مع كل ما آمنت به يومًا، في مجتمع الحرب أنا أنثى أحتاج لحماية الرجال. ترعبني الفكرة بحد ذاتها وتشعرني بالعجز. هكذا قررنا أنا والأصدقاء من الثوار، البدء في البحث عن بيت في البناء ذاته بحيث يستطيعون القدوم إليّ سريعًا في حال احتجت أي ّ شيء. وحتى حينها سأقضي معهم في بيت الزبدية بعض الوقت المؤقت. بيت الزبدية الواقع في الطابق الرابع وهذا بحدّ ذاته يشكل خطرًا أمنيًا للقصف بالطيران، بيت الفارغ من كل شيء تقريبًا باستثناء تلفزيون عتيق لا يعمل معظم الوقت لانقطاع الكهرباء، بضعة اسفنجات للنوم على الأرض، سرير سيء الصنع في الغرفة التي قرر الشباب أنها غرفتي. وغاز صغير للطبخ نجحت في إقناعهم بشرائه بعد جدال طويل حول استبدال الصندويشة التي يشترونها نفسها كل يوم بتناول الطعام المطبوخ.
في هذا البيت تعلمت الطبخ بكميات كبيرة تكفي عشرة من أصدقائي “الرجال”، سهرت على أحاديث سياسية وشخصية جدًا، تعرفت على أهاليهم من الحكايات وتعرفوا على قصص أهلي. بكينا كثيرًا على الشرفة وانتظرنا صديقنا المجنون الذي لا يجيد تقدير المخاطر في هذا المنزل، المزدحم دومًا بالناشطين الذين لا بيوت أخرى لهم. تعلمت كيف تنتفي خصوصيتك تمامًا في زمن الحرب. سريعًا انتقلنا من المنزل هذا، فالجيران وقدوم داعش إلى الحارة كانت إحدى أهم أسباب البحث عن منزل جديد. وبالفعل وجدنا منزلين في البناء ذاته، وهكذا انتقلت للعيش “وحيدة” في بيت بالمشهد. طالتني عناية الأصدقاء حتى أصغر التفاصيل كقائمة المشتريات الغذائية. لهذا البيت فسحة قررت أن أشتري لها عريشة ياسمين، اشتريت لهذا البيت البرادي والخزن وقررت ان أعتبره منزلي. ككل سوري ّ كنت أبحث عن شيء أكثر شخصية وحميمية من حقيبة السفر الدائمة التنقل.
إليه هرّبت شجرة عيد الميلاد لاحتفل هناك مع الأصدقاء رغمًا عن داعش. فيه بكيت من البرد لأن شبابيكه كلها مكّسرة وفشلت كل محاولات تدفئته. وفي الوقت الذي استسلمت فيه إلى وهم أن هذا البيت سيصبح بيتي، أوقفتني دورية لداعش بالقرب منه ونجوت بأعجوبة وبشجاعة الأصدقاء في الجيش الحر واضطررنا حفاظًا على سلامتي وسلامتهم إلى الانتقال بين بيوت الأصدقاء مجددًا هربًا هذه المرة من داعش. ليبدأ بعدها الانتقال بين حلب وغازي عنتاب، القليل من الثياب هنا والقليل من الثياب هنا، في شهر ما كان لدي حقائب ثياب في ستة منازل مختلفة. وبالفعل نجحت هذه الطريقة بالحفاظ على حياتي. وبعد تحرير حلب من داعش تمامًا،عدنا مجددًا إلى الزاوية الأولى زاوية البحث عن منزل جديد!
أخبرتهم أنني أبحث عن منزل يشبه منزل عائلتي، بحثنا وبحثنا وحين وجدناه أخيرًا، جميلًا مرتبًا! بيتًا كان لعروسين جدد اضطروا لتركه والنزوح إلى تركيا، قلت لهم أنهم يستطيعون وضع كل ما يعني لهم في غرفة وقفلها وأنني سأحترم ذاكرتهم وهذا ما كان. شهرين كانت المدة التي عشت فيها في هذا المنزل قبل أن أعتقل من لواء حلب المدينة، بسبب رفضي ارتداء الحجاب. يومها تمت مداهمة المنزل أيضًا وشعر الأصدقاء أن عليّ الرحيل عن حلب ومجددا مجددًا كان عليّ الرحيل ولم أعد بعدها إلى هناك أسكن اليوم في غرفة واحدة لا أمتلك القدرة على جعلها أكبر، غزوتها أنا هذه المرة كنوع من الحنين ربما باللون الأخضر ولا زلت أحلم ككل السوريين بالعودة إلى هناك، إلى صناديقي المكدسة إلى أشيائي الشخصية، إلى نقطة في هذا الكون أدعوها “بيتي” بأمان، لأسكنها وأعود ذات جذر وذاكرة.
مرسيل شحوارو مدونة وناشطة من حلب، سوريا وتغرد على Marcellita@
مصادر
عدل- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «سوريا: بيوت». الأصوات العالمية. 26 سبتمبر - أيلول 2014.
شارك الخبر:
|