سوريا: عن الحقد والغفران

الأربعاء 27 أبريل 2016


هذا المقال جزء من سلسلة خاصة من المقالات بقلم المدونة والناشطة مرسيل شحوارو، واصفة حقيقة الحياة في سوريا تحت نير الصدام المسلح بين القوات النظامية وكتائب الجيش الحر.

في البداية كنتُ جميلة ومملوءة بعبق الثورة وحدها، بالإيمان النقي بأننا هنا لنصنع التغيير وبأن الحقد لا يمكن أن يحمل في ثناياه تغييراً نأمله، وبأنه لا بديل لدينا إلا أن نصبر على الآخرين حتى يشقوا عباءة الصمت والذل ويلحقوا بنا، وبأن لكل منا أوان نبوأته وعلينا أن ننتظر ولادة الصرخة، وانتظرنا..

كان لدي ما يكفي من الترف المرتاح وصفاء الرؤية ومكان إضافي يتسع لمزيد من الحزن كي أراقب صور ضحايا الجيش العربي السوري والصفحات تتناقلها. كانت لدي القدرة على الانزعاج ممن يشمت بموتهم. كنت أقرأ تعليقات الأمهات والأخوة، والأصدقاء والحبيبة. كانوا شباباً في العشرينات، جميلون. كانت تصيبني حالات من الهوس لدرجة الذهاب إلى صفحاتهم الشخصية لمعرفة ما كانوا يفعلون، لمعرفة الإنسان وراء الضحية، أو وراء القاتل، أو كليهما معاً .

كانوا مملوئين بالإيديولوجيا حيناً، وكنا نحن لهم عصابات مخربة مدفوعة من إسرائيل للقضاء على أمن الوطن الذي سيبقى صامداً بسبب حكمة سيادة الرئيس الذي لا يعرفون عنه إلا أن “لا بديل” له على هذه الأرض. كانوا ممسوسين بحماية الوطن حتى تدميره. في حين آخر كانوا مملوئين بخطابات طائفية مفرطة الخوف والكراهية. كانوا يعتقدون بأننا سنذبحهم جميعاً، بأن لا ديمقراطية نبتغيها وبأننا مدفوعون بحقدٍ عليهم وعلى عائلاتهم وطائفتهم؛ حقدٌ سيبتلعهم إن لم يبتلعوه هم أولاً.

في أحيان أخرى كانوا مملوئين بالتململ، ومتابعة تلك الحالات كانت الأكثر إيلاماً، إذ كانوا يحسبون أيام الإجازات التي لم يأخذوها والأمهات اللواتي ينتظرنهم ووعود التسريح التي لم تنفذ. يومها كنت أستطيع أن أراهم مثلنا ضحايا نظام أجبرنا على أن نخرج إلى الشارع لنسقطه، وأجبرهم أن يقتلونا ليبقى على الكرسي .

وشيئاً فشيئاً أصبح لدي قائمة طويلة من المعارف لأنهوس بملفاتهم الشخصية وتضحياتهم. معتقلون ومعتقلات وشهداء، كنت أجري من تشييع لآخر. كانوا يقتلوننا بكثافة، وزاد ثقل ما أحمله فوق كتفي. لم يعد فقر الحال والأدلجة كافياً كي يشفع لهم. لم يعد الخوف مبرراً كافياً للتحول إلى آلة القتل الوحشي تلك. تماهوا مع القاتل وصورته وعمله وكل ما يتعلق به. أصبحوا بالنسبة إليّ جميعهم بشار الأسد، لا مجرد ضحاياه. أصبحوا هم ذاك الذي يمتلك القدرة على الاستمتاع بالتعذيب حتى القتل، أصبحوا ذاك الذي أعطى أمراً بإطلاق السلاح الكيماوي أو ذبح طفل في الحولة بالسكين ومعها ذبح آخر قدراتنا على مكافحة الحقد. ورويداً رويداً أصبح بشار الأسد بعيداً في قصره وتعبيره الأوضح عن نفسه ونظامه هو ذلك السجان وذلك الجندي وصوت المروحية.

بقي لدينا القليل من الطاقة فقط، وكانت لا تكفي للكفاح مع أنفسنا لمقاومة الرغبة السهلة في اعتبارهم مجرد “قتلة”، أصبحت متعبة جداً جداً مسيرة الكفاح مع أنفسنا، وضد أنفسنا، لاعتبارهم “مثلنا”. بل كنا أقرب لأن نصبح مثلهم قتلة، من أن نقتنع أنهم مثلنا ضحايا. أصبح حقدنا جزء من معركة الوجود. نحن نحتاج أن نغضب كي ننجو، كي نستعيد إدراكنا أن ما يحصل لنا من عنف هو ليس “الطبيعي” أو “العادي”. كنا نحتاج أن نغضب كي نعتق حياتنا ونرفض الاستسلام للالتصاق بالموت. “على هذه الأرض ما يستحق الحياة من أجله”، ولكن، على هذه الأرض نفسها، لم يعد هناك ما يكفي من الخير للقاتل والضحية معاً!

يومها أصبح قتلهم لا يزعجنا..

بعدها كان من المنطقي جداً أن تتسلل داعش من حقدنا، وبقدومها أصبح علينا أن نخاف مجدداً في المناطق التي اعتقدنا أننا دفعنا ما يكفي من الدماء لنستحقها. في سوريا لا شيء يأتيك مجاناً، كل شيء له ثمن، وبالأخص حقوقك. مجدداً عدت إلى النقطة الأولى، محاولة التعاطف مع هذا العدو الجديد. هذه المرة بررت بأنهم ضحايا العنف والحقد، ضحايا لديهم مظلومية محقة ضد عالم تجاهلهم وتجاهل كل ما يجري لهم. بعضهم تملؤه الأيديولوجيا ونحن بالنسبة لهم الكفار الذين تمولهم أمريكا لكي يعيثوا فساداً في بلاد الشام. بعضهم الآخر يحركه الحقد والخوف والغضب، يرون بأنه لا شيء يحمي دولة الإسلام إلا هم. بعضهم يملؤه الانبهار بصورة مقاتل أجنبي مزود بكامل العدة والعتاد. مقابل سلاحه الأخرق المتقطّع الوصول مراهق يعتقد أن داعش لعبة كاونتر سترايك حقيقية. بعضهم كان حتى البارحة “منا”، ضحية مثلنا، حتى ملّ الدور واكتشف أنه ميت لا محالة فقرر أنه لا يريد أن يموت في جسد الضحية، مقتولاً، وقرر أن يموت قاتلاً!

ومع الوقت، وأسرع هذه المرة، اعتدت دورة الضحية والجلاد. فقدت التعاطف معهم وشعور الذنب الذي كان يرافقني حول ماذا كان علينا أن نفعل كي لا يصابوا بالجنون. أصبحوا هم بدورهم العدو بالنسبة لي. بقي لدي قدر قليل جداً من المقدرة على الحزن بعد. قليلٌ لا يكفي حتى لأوزعه على مئات الضحايا يومياً الذين لم يقتلوا أحداً. ويحتلني هاجس مؤرق حول ما هو العادل اليوم. كيف نقرر من منهم هو ضحية نظام ظالم، محلي أم عالمي، ومن هو صانع لهذا النظام ونبيّه؟ ما هو العقاب العادل لبيادق في لعبة الحفاظ على السلطة والمال والخوف؟ كنت أتمنى لو أن روح الثورة كانت تكفي لأعفو عنهم جميعاً في “محكمة رأسي” لا أكثر. أتمنى لو أن واحداً فقط من دعاة “العفو عما سبق” يستطيع أن يضمن لي أن هذه المغفرة ستحمي سوريا من تكرار هذا الجنون مجدداً، لا أنها ستكون أشبه بمكافأة للقتلة على سعيرهم .أتمنى لو أنها ليست تواطئاً منا في تجاهل حق من رحلوا بالحياة وحق الضحايا لأنهم الأضعف. أتمنى لو أنني أستطيع أن أكره النظام ألفاً وأجد لزبانيته ألف عذر. أن أحقد على داعش حتى الرمق الأخير وأجد لمراهقيها المبايعين ألف عذر. لكن لا مفرّ لي من الغضب! أنا أغضب كي أحيا، أغضب كي أغير ما كان وما سيكون.

فلك أن تحزن ما شئت وبدرجات مختلفة أومنافقة على أي من كليهما، ذاك الذي ما زال يقاتل على جبهات النظام أو الآخر الذي بايع داعش، بحسب أيهم تعتقد أنت أنك أقرب إلى أيديولوجيته. لك أن تحزن على كليهما إذا كان لديك متسع على أكتافك. لكن ليس لك، أن تستغل دائرة الضحية / الجلاد هذه لتحبسنا داخلها. لتمارس علينا ضغطاً قاتلاً بدوره كي ننسى ما كناه وما خسرناه، كي نغفر مرغمين.. ونصفح. ليس لك هذا دون أن تثبت لنا ولو مرة كيف تستطيع هذه المغفرة أن تمنع التاريخ من أن يعيد نفسه، أن تفكر معنا كيف يضمن موقفك الواقع على “مسافة متساوية من كل الأطراف” القليل والقليل فقط من العدالة !

مرسيل شحوارو مدونة وناشطة من حلب، سوريا. مرسيل تغرد على Marcellita@

مصادر

عدل