شبابيك الليل المُتعَبَة بين غازي عنتاب ومدينة الباب

الأربعاء 14 يونيو 2017


طيلة فترة تواجدي في مدينة غازي عنتاب التركية، لازمتني عادة وهي أن أمشي بعد منتصف الليل في شوارع هذه المدينة ذات الأبنية المبنية على عجل نظراً لكثرة توافد اللاجئين إليها من سورية والعراق، اُطيل النظر في شبابيك هذه المدينة المُنارة منها والمظلمة، أخمن قصص وحكايات البيوت وما هي تلك الأحاديث التي تُحكى أثناء شرودي بالشبابيك.

قصص السوريين لا تكاد تنتهي، ففي الحي الذي كنت أسكن فيه ويدعى حي “Yedi tepe” الذي يقطنه الكثير من السوريين، أمشي في شوارع الحي وصولاً لحي “Karataş”، أسمع حكايا الصمت وأُخمنها، أحاول حل مشكلة شاب وقع في نار إلحاح أهله في إكمال دراسته وطلبه المتكرر لهم بالعودة إلى سورية، أُخمن أيضًا حكايا شاب تزوج منذ فترة، يطيل السهر وهو يحسب ما له وما عليه من راتبه الذي بالكاد يعيشه في هذه المدينة التي قال عنها أحد السوريين: “مصاري عنتاب لعنتاب.”

ومن الشبابيك ما هي مضاءة من إنارة أجهزة الموبايل عبر رسائل “واتس آب” عن غرف أخبارية تُرسل ُ لمشتركيها أخبار عن مقتل كذا سوري في الرقة أو دمشق.

شبابيك لو بإمكانها التحدث لانفجرت المدينة بمن فيها لِما تحمله من قصص الموت في بيوت ساكنيها وعقولهم ومشاكلهم.

أصل طلعة “Karataş”وهي منطقة تبعد عن مكان سكني قرابة النصف ساعة مشياً، أكون فيها قد خمنت الكثير من قصص الموت والتعب، نام أصحابها من شدة الأرق ومن كثرة التفكير فيها، منهم من استسلم للنوم تاركًا ضوء الغرفة ونيس وحشته.

أتكاسل بالعودة سيرًا على الأقدام كما جئت، أيضًا أنا أثقلت رأسي حكايا الشبابيك وزاد الحمل على قدميّ. أذهب إلى مكتب التاكسي أصرخ بكلمات لا أعرف معناها باللغة التركية حفظتها من كثرة تداولها أمامي: (ابيه… خوش غالدنز … إِي والله … ابيه … ناكدار … بتيه).

أزعج السائق من نومه القلق في نوبته، أطلب منه أن يوصلني إلى منزلي الذي اخترته أمام مشفى الجامعة في غازي عنتاب، فمن الأفضل لنا إن كان خيار العيش بيدنا، أن نختار منزلاً بالقرب من مشفى أو سجن أو مقبرة، فكل الخيارات الثلاث تجعلنا نشعر بالرضا في حال أصابنا مكروه إذا ما قورنت مصائبنا بما يعيشه أهل المقابر ورواد المشافي والمعتقلين.

كنت أيضاً أراقب شبابيك المشفى الجامعي من شباك منزلي، أشعر بالأسى لمقاتل في الجيش السوري الحر بُتِرَتْ ساقه في المعارك ضد قوات الأسد، يتسلى بإشعال الإنارة وإطفائها في غرفته متناسيًا خذلان فصيله له وتركه مرمياً في المشافي التركية دون رعاية تذكر.

أعود للمنزل، معتاداً على شتم السائق التركي لي عن مشوار قصير لا يكاد يسمى مشوار في طرقات فارغة بعد منتصف الليل، وإيقاظه من نومه القلق.

أرجع للمنزل أحاول تفريغ ما حمله رأسي من قصص على ملف word وأنام.

كانت هذه العادة تسرني وأواظب على ممارستها كل يوم ولا يحول بيني وبينها حتى ليل يوم ممطر.

ولكن الآن ومع تغير مكان الإقامة من مدينة غازي عنتاب التركية إلى مدينة الباب شرقي حلب، أبحث بعد منتصف الليل عن مكان لقدمي مع هذا الظلام الذي يغطي المكان.

أتلمس موطئ قدمي قبل أن أضع قدمي كاملة، فالمدينة بعد تحريرها من تنظيم داعش، لم تخلُ من الألغام بشكل نهائي. أتمنى أن اخطو خطوة بقدم كاملة دون التَّلمْس أمامي إلا في الشوارع المزفتة.

لا أعرف أين الشبابيك هنا مع كل هذا الظلام، في منتصف الشهر الهجري ومع اكتمال القمر، أبصر ليلاً جدران وشبابيك قد أكل الرصاص منها. يشكل صدى نباح الكلاب بوصلة لي.

أذهب إلى شارع زمزم الشارع الطويل والعريض والمزفت، أطيل النظر في الشبابيك المهدمة والمهجورة من ساكنيها، شبابيك مغلقة بأكياس نايلون وإشارة ضرب بلاصق عريض، كل شباك يحكي لي قصة اقتحام عناصر الجهاز الأمني لتنظيم داعش وكسر زجاجه غالي الثمن وسحب أحد المطلوبين إلى السجون، وشباك لامرأة عشرينية حولها التنظيم بعد قتل زوجها إلى عجوز بالكاد تستطيع حمل كوب الشاي بيدها، وأحيانا يشطح تخميني لتخيل شبابيك لأبنية دمرت بشكل كامل. كم بداخلها من أحلام رُدِمَتْ مع ساكنيها؟!

قيل لنا أن البيوت أسرار، لكن الشبابيك مفاتيحها فمن خلال نظر أحدنا إلى شباك منزل السوري، أياً كان مكان إقامته، تعرف أسرار هذا السوري من شباكه.

ودائماً ما أنهي تأملي في شبابيك البيوت بجملة: أما آن لشبابيك السوريين أن ترتاح؟

مصادر

عدل