على خطى رحلة اللاجئين الطويلة

الجمعة 9 أكتوبر 2015


تصطفّ بساتين الزّيتون وأشجار التّين وبقايا مرور آلاف الباحثين عن اللّجوء من نساء ورجال وأطفال على طريق إفتالو السّاحليّة في جزيرة ليسفوس اليونانيّة. وقد تراكمت على الطّريق السّاحليّة الزّوارق المطّاطيّة المفرغة من الهواء وأكوام من أحزمة النّجاة المليئة بالسّتيروفوم والإسفنج والأعشاب الجافّة بالإضافة إلى الملابس الخارجيّة الرّطبة المتروكة والألعاب والتّذكارات التّي حملوها عبر البحار وأضاعوها في استعجالهم للمُضي قُدمًا.

وفيما تشرق الشّمس متلألئةً على بحر إيجة، تظهر على الأفق الزّوارق التّي تحقّق تقدّمًا بطيئًا في وجه المياه الهائجة. ويرشدهم المتطوّعون ليصلوا إلى الشّاطئ وإذ بركّاب الزّورق يتعثّرون ويخوضون المياه التّي تصل إلى ركابهم متمسّكين بأطفالهم والمسنّين وحقائب الظّهر التّي أنقذوها وببعضعم البعض. وفيما يتنفّسون الصّعداء، يتعانقون ويهتفون ويبكون أو يركعون يصلّون أو يجلسون بصمت يرتجفون. ثمّ يتّصلون بأعضاء عائلاتهم الّذين لا زالوا في المخيّمات أو المجتمعات في سوريا وأفغانستان ولبنان وتركيا وإريتريا والصّومال وفي أماكن أخرى ليطمئنوهم أنّهم وصلوا بسلام وأنّهم لا يزالون على قيد الحياة ومع بعضهم البعض.

فاطمة وهي معلّمة وأمّ لفتيين صغيرين تنهار عند وصولها إلى الشّاطئ وتبدأ بالبكاء ولبضعة لحظات تعاني في التقاط أنفاسها. محمود وهو فتى يبلغ أحد عشر عامًا يركع ويحضنها فيما يترخي حجابها. ويحاول محمود تهدئتها وطمأنتها بأنّهم وصلوا كلّهم بخير وأنّه يحبّها. وقالت فاطمة لاحقاً:

«النص الأصلي:.On the dinghy, I held all of my fear inside of me so my boys wouldn’t see it

But they are older than their years. I hope, somewhere, that they can live the childhood that was denied to them and that I can re-build our lives»

«ترجمة:أخفيت خوفي على المركب كي لا يراه إبنيّ. لكنّهم ناضجون جدًّا. أتمنّى أن يتمكّنوا من أن يعيشوا طفولتهم التّي حُرموا منها في مكان ما وأن أتمكّن من إعادة بناء حياتنا.»

يجلس أحمد على الصّخور غير قادٍر على السّير ويحيطه أولاده الكبار. وتمسك سوسن ابنته البكر بيده، وبعد سير 6 كيلومترات وصولًا إلى موليفوس وبالرّغم من الحرّ الشّديد ينتعش من جديد ويعجب بالحقول الزّراعيّة الخصبة وبالأشجار المزهرة وأنقاض قلعة قديمة بعيدة تمّت المحافظة عليها. ففي الرّقّة تمّ حجز ابنيه المراهقين وجلدهما وحين أُخلي سبيلهما أخيرًا قرّر أحمد مغادرة سوريا مشدّدًا كم كان هذا القرار مدمّرًا. وأضاف:

«النص الأصلي:.There was no other option. I raised my children to reject sectarianism and to have deep respect for all religions. We saw a brutality and inhumanity that I could no longer protect them from and I knew we had to leave»

«ترجمة:لم يكن هناك أيّ خيار آخر أمامنا. لقد ربّيت أولادي على رفض كلّ مظاهر الطّائفيّة واحترام كلّ الدّيانات. رأينا وحشيّة ولا إنسانيّة لا مثيل لها ولم أعد قادرًا على حمايتهم، وبذلك عرفت أنّه حان وقت الرّحيل.»

تمشي كلّ من لارا وهيا وهما مراهقتان مولعتان بالهيب-هوب مع إخوتهما. يرافقهم والدهم إيهاب وهو يتعافى من عمليّة القلب المفتوح التّي أجراها منذ بضعة أشهر. ولا يزال ندب الجراحة ظاهرًا على صدره. يمشي إيهاب ببطء ويتوقّف غالبًا ليريح نفسه لكنّه اقتنع أن يقلّه أحد المتطوّعين إذ أن هذا الأخير أكّد له أنّ أطفاله سيبقون في أمان ويلحقون به إلى مخيّم الإستراحة القريب. وتابعت المجموعة سيرها على هذه الطّريق التّرابيّة ومع ارتفاع الشّمس في السّماء الصّافية قرّر الصّغار الذّهاب للسّباحة. وها هم يرمون بأنفسهم عن الصّخور بثيابهم ويطوفون على ظهرهم في المياه الّتي أصبحت أخيرًا هادئة.

من جهة أخرى يجلس كنيار وهو موسيقيّ كردي من كوبان في سوريا ويرتاح مع عائلته وأصدقائه. ولقد أحضر معه آلته الموسيقيّة وهي عود طويلة العنق وبعض التّذكارات. ويقول:

«النص الأصلي:My music is my resistance. I play songs to honour our fallen, those who died defending our people, and to celebrate life,our traditions and culture too. My music is how I contribute to the struggle of my people.»

«ترجمة:أقاوم عبر الموسيقى. أعزف الأغاني لتكريم الّذين سقطوا والّذين ماتوا في سبيل شعبنا وللاحتفال بالحياة وبتقاليدنا وثقافتنا أيضًا. وعبر الموسيقى أتمكّن من المساهمة في نضال شعبي.»

تتنقّل سلوى الطّالبة الأفغانيّة العشرينية الرّؤوفة والكفوءة والمتعدّدة اللّغات بين مجموعات المسافرين من كابول وقندوز ومزار الشّريف وتساعد كلّ الّذين بحاجة إلى مساعدة. تترجم لمسعف متطوّع في حين يفحص قدميّ كريم اللتين تؤلمانه. كريم مدرّس هزاري يعاني من السّكّري لكنّه يمشي منذ أسابيع مع عائلته، لذلك أُصيب بنخر في الأنسجة العميقة في قدميه ويبدو أنّه سيخضع لبتر مزدوج. وقالت سلوى:

«النص الأصلي:I couldn't translate that. I couldn't destroy his hopes. They will tell him the truth at the hospital, but I cannot»

«ترجمة:لم أتمكّن من ترجمة ذلك، لم أتمكّن من تحطيم آماله. سيقولون له الحقيقة في المستشفى لكن لم أقدر على ذلك.»

في وقت لاحق وخارج موقف سيّارات مُغبر حيث ينتظر الوافدون الجدد الباصات النّادرة التّي ستقلّهم إلى مخيّمات المعالجة في ميتيلان، تجمعنا ضحكة مألوفة بوسام وهي صحافية فلسطينية كانت مقيمة في مخيّم اليرموك للّاجئين. آخر لقاء لنا كان في العام 2007 في استوديو عملها في أوقات أفضل. تعانقنا واستغرقنا في الذّكريات، ثمّ أشارت إلى ابنها وإخوتها الواقفين جانبها ولا تزال ملابسهم رطبة وتفوح منها رائحة مياه البحر من عبورهم وقالت:

«النص الأصلي:Our world has been turned upside down- everything has changed in such a short space of time»

«ترجمة:لقد انقلب عالمنا رأسًا على عقب- تغيّر كلّ شيء في فترة زمنيّة قصيرة جدًّا.»

كان الزّورق بدأ يغرق وهم لا يزالون بعيدين عن الشّاطئ وأجبروا على رمي كلّ ما هو غير أساسيّ في البحر بما فيها حقائب ظهرهم المشبّعة بالمياه. وفيما تتحدّث عن الآلاف الّذين بحثوا عن ملاذ وغرقوا خلال العام المنصرم ارتأت وسام أنّ:

«النص الأصلي:The seas are not only the graveyard of our bodies but also of our memories- of our photos and belongings and the small things with us to remind us of home»

«ترجمة:ليست البحار مقابر جثثنا فحسب بل ذكرياتنا أيضًا- صورنا وممتلكاتنا والتّذكارات الصّغيرة التّي أحضرناها معنا لتذكّرنا بديارنا.»

بعد بضعة أيّام، كان لا يزال العديد من الأشخاص الّذين التقينا بهم عند وصولهم ينتظرون في مخيّمات في ميتيلان أو في المرفأ أو ينامون في الشّوارع بانتظار أوراق الاستقبال التّي ستسمح لهم بمتابعة رحلتهم. الظّروف مذلّة والبنى التّحتيّة الإنسانيّة في حال وُجدت ضعيفة ويومًا بعد يوم ينتظرون ساعات في المرفأ متحمّلين الشّتائم اللّفظيّة وضربات العصي التّي يتلقّونها أحيانًا من شرطة المرفأ. وتقول صونيا وهي طالبة في الهندسة المعماريّة من سوريا أنّ:

«النص الأصلي:It's all so humiliating. We really weren't expecting this. We thought that if we lived through the sea crossing that that would be the hardest part of the journey completed.»

«ترجمة:هذا مذلّ جدًّا فلم نكن نتوقّع ذلك. لطالما اعتقدنا أنّ نجاتنا من البحر ستكون أصعب مرحلة من رحلتنا.»

تمّ تداول قصص الحدود العسكريّة التّي يجب عبورها أو نشرها على منتديات الإنترنت. مروان وهو أحد الشّباب الّذين توقّفوا للسّباحة في حين كانت عائلته تسير نحو موليفوس يشير إلى مجموعة المسافرين المنهكين الذين نفذ صبرهم من حوله في المرفأ قائلًا بامتعاض:

«النص الأصلي:If I knew we were hurrying only to get stuck here I would have stayed in the sea for longer and stopped to admire the views along the way.»

«ترجمة:لو عرفنا أنّنا نستعجل لنعلق هنا لبقيت في البحر لمدّة أطول ولكنت استمتعت بالمناظر على الطّريق.»

في اللّيلة عينها، أخذنا صونيا ومجموعتها من الطّلّاب للإحتفال في بيبكا وهو مخيّم تضامن يديره المجتمع ويوفّر الرّاحة والملاذ للمريضين والمصابين وبخاصّة المستضعفين من الباحثين عن ملاذ. وترقص إيففي، منسّقة ومتطوّعة لا تكلّ، وتحيطها مجموعة من الفتيات الصّغيرات تحاول كلّ واحدة منهن أن تمسك يدها وتحاول هي أن تبادلهن اهتمامًا. تقول إيففي:

«النص الأصلي:We learn from their strength and we try to create a community that gives us all some dignity»

«ترجمة:نتعلّم من قوّتهم ونحاول خلق مجتمع يمدّنا جميعًا ببعض الكرامة.»

كما تغنّي مجموعة من الموسيقيّين والنّاشطين والمتطوّعين من شبكة Welcome to Europe أغان عن الترحيب والتّضامن الّذي يتخطّى الحدود والإنتماء والعبّارات وليس حرس الحدود الأوروبي.

تجلس صونيا بين الأطفال وأهلهم وتسترخي فيما تزيل حمل ترقّب الأيّام والأسابيع المقبلة عن كتفيها. ويقف محمّد شاب يبلغ 13 عامًأ من حلب ويأخذ الميكروفون. وتحت سماء ليلة جميلة وبين النّاجين يغنّي محمّد رابًّا حول المقاومة والتّحمّل والرّحلة الطّويلة. وإذ ينضمّ إليه الجمهور وللحظة في وسط الظّلام يضيء وجهه.

كيفا بوترلي هي منظّمة إيرلنديّة وناشطة من أجل عدالة المهاجرين وطالبة دراسات عليا. عملت أربعة عشر عامًا مع الحركات الاجتماعيّة ومشاريع تنمية المجتمع في أمريكا اللّاتينيّة والعالم العربي ومناطق أخرى.

مصادر

عدل