عن علاء والمعرفة والكفاح

الثالث 14 يناير 2014



الناشط والمدون المصري وصديق الأصوات العالمية علاء عبد الفتاح مسجون حاليًا لكونه ناشطًا. نُشِرت هذه المقالة أصلًا في مدونة جيليان يورك، وترجمه أسامة خالد.

لا أتذكر حقيقة متى قابلت علاء، لكني أذكر كم كان حضوره مؤثرًا منذ رأيته أول مرة. كنا في غرفة في بودابست نتحدث مع مجموعة من الأكاديميين عن موضوع ما ذي علاقة بالحراك، وكل ما قالوه كان – في نظر علاء – خاطئًا. فرفع صوته من طرف الطاولة ففاجأتني جرأته.

بعدها بسنتين (في 2010) صرنا أصدقاء. أعرف هذا من سجلات المحادثة الكثيرة المشفرة الموجودة في بريدي حينما كنا نتحدث مرة أو مرتين كل أسبوع. كان ذلك قبل الثورة حين كان هو ومنال يعيشان في جنوب أفريقيا. أتذكر وأنا أجمع تلك القصاصات من ذاكرتي ومن سجلات المحادثة غير المشفرة كيف كان يلومني على عدم القيام بما يكفي فيما يخص الموضوع سين، ويوبخني بلطف لأنني لم أتحدث عن الموضوع صاد. إحدى تلك المواضيع كانت التشفير ذاته. مرة بعدما صادفنا واحدة من المشكلات المزعجة والبسيطة التي تتكرر عند استخدام OTR قال: “OTR مجهد أكثر من اللازم، لكن أدوات التشفير هكذا.” قلت له: “أحتاج أن أتعرف عليها بشكل أفضل” كان جوابه: “نعم”، وكان محقًا، وأثبت ذلك.

حين بدأت الثورة كان لا يزال في جنوب أفريقيا لكنه كان على تواصل مع أهله رغم انقطاع الإنترنت. كنت في بوسطن، وبحكم عملي في مركز بركمان للإنترنت والمجتمع تلقيت اتصالات صحفية: من النيويورك تايمز وإن بي آر والجزيرة. كنت أعرف أن المصريين كانوا يستخدمون فيسبوك وتويتر للتنظيم لكني لم أكن أعرف أحدًا في الشارع. أعطاني علاء مجموعة أسماء من ضمنها اسم اخته منى وبدوري سلمتها للصحافة لتتواصل مع الأشخاص القليلين الذين كان لا يزال عندهم اتصال بالعالم. كان يتحدث معي وأنقل بدوري تحليلاته للصحافة. لم يكن وقتها يرغب في أن يكون محل انتباه، ولم يكن هناك.

بعد ذلك عاد إلى القاهرة مع منال. انهالت طلبات التحدث والتصريح على هذا الموضوع أو ذلك. “سأذهب إلى الإمبراطورية” قالها لي متحدثا عن أول زيارة له لنيويورك، والتي تلتها زيارة ثانية التقيت معه خلالها بمجموعة من الأصدقاء في منتدى الديمقراطية الشخصية وشربنا أكثر مما ينبغي. في ذات السنة التقينا مجددًا في تونس في ملتقى المدونين العرب الثاني. كانت منال في الشهور الأخيرة من حملها وكانت جميلة. أجزم أنهما قدما إحدى الجلسات وهما يرتديان زي السباحة. كانت لحظات تفاؤل وسعادة. تلك اللحظة أقنعت علاء ونحن على أريكة أن يأتي إلى سان فرانسيسكو لمؤتمر RightsCon، وأن بإمكانه أن يسكن معي وأن يرسل ما شاء إلى منزلي.

قبل أسبوع من قدومه كنت كلما عدت إلى المنزل وجدت حزمة كبيرة من أمازون، من ضمنها عربة أطفال (“رباعية الدفع” كما كان يقول مازحًا)، وعدد لا يحصى من الكتب وألعاب رائعة لعبنا بها قبل قدوم خالد. ما حدث بعد ذلك معروف: كان علاء يعرف حين قدم ما سيحصل له حين يعود إلى بلده. ألقى خطبة رائعة وحضر مظاهرات “احتلوا” في أوكلاند والتقى بأصدقائي، بعد ذلك ركب طائرة وذهب مباشرة إلى السجن.

زرت القاهرة أول مرة بعد ميلاد خالد. كان صغيرًا رقيقًا، وكنت عديمة الجدوى حين وقفت مع منال وهي تحمّمه كما تفعل الأمهات. كان وقتها أوج أوتيوتون في القاهرة وكنا -وقد طار النوم من أعيننا- نسجل بكاء خالد عبره ثم نعدله ونحبس ضحكاتنا خشية أن يستيقظ الرضيع.

كانت آخر مرة شاهدت فيها علاء في القاهرة. أخذني من الفندق الذي كنت فيه ومكثنا في زحام القاهرة ثلاثة ساعات وكانت أول مرة أشاهده يقود. كنت قد جلبت معي دراجة ثلاثية العجلات لخالد وقميص EFF الجديد الذي طلبه علاء وحين وصلنا جلست مع منال حتى جمع علاء القطع البلاستيكية. بعدها ذهبنا نحن الثلاثة مع بعض الأصدقاء واستمعت وأنا صامتة لحديثهم عن السياسة والثورة. كانت منال توبخهم ليتحدثوا بالإنجليزية، لكن علاء كان يقول أنه من المفترض أن أكون الآن قادرة على الفهم. فهمت فعلًا كلمات قليلة هنا وهناك. شربنا الشاي حتى برد ثم أعادوني إلى مصر الجديدة.

هذه الصداقات تأتي مبعثرة، لكنها أحيانا أغلى ما نملك. وفي هذه الحالة وعلى الرغم من أنه يكبرني بستة أشهر فقط (بالضبط) وصديقًا أعتبره أحد أهم معلميّ. علمني أن أتجرأ في وجه المخاطر ولم يخشَ أن يخبرني أني لم أنجز ما يكفي. كنت أتحدث مع صديق آخر وأخبرني أن إحاطة نفسي بأشخاص راديكاليين يسعون للكمال أثر على نظرتي للأمور. توقفت قليلًا أمام مقولته، لكن حينما أتذكر كل ما تعلمته، لا أندم على شيء على الإطلاق.

قلتها للصحفيين مرات كثيرة حتى فقدت المعنى: علاء في السجن ليس لأنه ارتكب جريمة، وليس لأنه قال أكثر مما ينبغي لكن لأن وجوده بحد ذاته خطر على الدولة. الشجعان والذين لا يستكينون سيهددون الخائفين وسيضعفون الدولة التي عليها – إن أرادت البقاء – أن تسحق المعارضين كما تُسحَق الحشرات. لكن علاء لن يرضى بأن يسحق. أنا على يقين بذلك.

يمكن أن أسهب وأقول أشياء لم تقل ولن يقولها المصريون الذين خاضوا المعارك في الشوارع بينما كنت أتفرج وليس عندي إلا أصدقاء قليلون على الأرض. الشيء الوحيد الذي أنا على يقين به أن من واجبنا ألا نيأس. علاء لم ييأس، ولا يمكننا أن نيأس.

مصادر

عدل