ما بين عوالم مختلفة: صعوبات حياتية واجهتها عائدة صغيرة إلى اليابان
الثالث 1 أغسطس 2017
من المعروف أن قضاء سنواتك الدراسية في بلادٍ مختلفة يعتبر نعمة لكن الناس لا ينتبهون إلى أن لتلك النعمة حظًا وافرًا من اللعنات المصاحبة لها.
ولدت في طوكيو ونشأت في بيئةٍ يابانيةٍ حتى بلغت السادسة من العمر كان ذلك عندما انتقلت الشركة التجارية التي يعمل والدي لحسابها إلى نيويورك، رحل هو أولًا بينما انتظرت مع أمي حتى نهاية العام الدراسي الحالي قبل اللحاق به، ما زلت أملك الألبوم المليء برسائل الوداع من زملائي في الصف يتمنون لي فيها حظًا سعيدًا وينتظرون عودتي بفارغ الصبر.
كانت أشهري الأولى في نيويورك عبارةً عن كابوس، فبدون اللغة الإنجليزية لم أستطع فهم كلمةٍ واحدةٍ من أساتذتي أو زملائي وأقراني في روضة الأطفال التي التحقت بها وكان المعلم المسؤول يصاب بالضيق ويعطيني 30 دقيقة مستقطعة خارج حجرة الدراسة حيث لا يزعج بكائي أحد، ولم يكن هناك أحدٌ لدعمي سوى معلمة يابانية كانت الإنجليزية هي لغتها الثانية تساعدني قدر استطاعتها وصديقةٌ نصف يابانية كانت تبذل كل ما بوسعها وتستخدم لغتها اليابانية المحدودة لأجلي. قلقت أمي على حالي وعينت لي معلمًا للغة الإنجليزية وبفضل صغر سني لم أستغرق وقتًا طويلًا حتى أتقنتها وبعد عامٍ واحدٍ من الاستماع وحسب دون الكلام وجدت نفسي قادرةً على الكلام والكتابة بالإنجليزية في عامي الأول من المدرسة بطريقةٍ ما.
مرت السنوات التالية بشكلٍ ضبابي وأصبح لساني طليقًا في اللغة أكثر فأكثر حتى بدأت بتفضيلها على اليابانية وتمكنت من عقد صداقاتٍ مع أقرانٍ أمريكيين ومع الوقت أصبحت اهتماماتي مثلهم: مسلسل الثانوية الموسيقية، نوعية الثياب، حفلات المبيت، لكن مع مرور السنوات بدأ أطفالٌ يابانيون مثلي بالتوافد على المدرسة وكلما تعاملت معهم شعرت أني أمريكية مجملًا ويابانية القلب فحسب.
وما إن بدأ الوقت الأفضل في حياتي حتى انتهى بسرعة وتناثرت أحلامي لأشلاء عندما تم نقل عمل أبي ثانيةً إلى اليابان وبالتالي كان على أسرتنا كلها العودة، بكيت لأيام ولم أستطاع نسيان حفلة البيتزا التي أقامها أصدقائي على شرفي في آخر يومٍ لي بالمدرسة، وعدتهم أني لن أنساهم وسأبقى على اتصالٍ بهم وسنرى بعضنا مجًددًا بالتأكيد، كنت في العاشرة من عمري آنذاك.
وذهابًا إلى اليابان كان لقبي في ذلك الوقت “العائدة” كان علي دفع نفسي إلى التأقلم مع أنشطةٍ معتادةٍ هنا كاستخدام القطار والتعرف على شوارع المدينة لكن أكبر اختلافٍ واجهته كان الأشخاص الذين حسبت أني أعرفهم فأصبحوا الآن مختلفين ومتباعدين، كانت هناك مدرسةٌ ابتدائية بجوار مدرستي القديمة لذلك كنت أذهب إلى مدرسةٍ بنفس العنوان السابق لكنني لم أكن أعرف سوى نصف الموجودين في فصلي فحسب وبرغم ذلك اعتقدت أني سأكون قادرةً على الاندماج بينهم.
كنت مخطئة ففي يومي الأول قامت صديقتي المقربة بتقديمي لأصدقائها باعتباري “الفتاة التي كانت في أميركا”، وكنت أستعد لخوض امتحان دخول المدرسة المتوسطة بالإنجليزية بينما استعد الآخرون لخوض ذات الامتحان باليابانية، معلم فصلي طلب مني ألا أذاكر بالإنجليزية في حجرة الدرس لأن ذلك يزيد من قلق زملائي، الأسوأ كانت حصة لغة إنجليزية عندما أخبرت المعلمة اليابانية الصف بأن اسم سمك القد باليابانية يعني سلمون بالإنجليزية فصححت خطأها لتنعتني بالمثيرة للشغب في الفصل وأني أمنع زملائي من التعلم وطلبت مني التزام الهدوء، منذ تلك اللحظة توقفت عن المشاركة في حصة اللغة الإنجليزية وحصلت على علاماتٍ سيئة في تقريري بسبب عدم المشاركة، استطاعت تلك الحوادث أن تؤثر في خارج حجرة الدرس أيضًا فأصبحت أقل ثقةً بالآخرين وأخاف التحدث بالإنجليزية في الأماكن العامة.
التحقت بالمدرسة الإعدادية وأنا في الحادية عشرة من عمري مع عائدين مثلي لذلك ظننت أن التميز والاختلاف سينتهيان إلا أن الأمر انتهىبالمرسة الإعدادية أن أصبحت مكانًا أكثر سوءًا بسبب وجود مجموعةٍ أكبر منا، تألف عامي الدراسي من 6 موادٍ أساسية وتم تقسيم الطلبة العائدين من دولٍ أخرى على فصلين بينما قسم الطلبة اليابانيون “الطبيعيون” الذين التحقوا بالمدرسة بعد امتحان اليابانية على 6 فصول، نصف فصلي كان من أولئك العائدين ولم أدخر وقتًا في عقد صداقاتٍ معهم لأننا جميعًا واجهنا نفس العنصرية في التعامل في المدرسة الابتدائية وكنا نفهم مشاعر بعضنا، وعلى الصعيد الآخر لم تعجب علاقتنا وتقاربنا بقية الطلاب ولا حقيقة أننا نتحدث بالإنجليزية معًا وأننا دخلنا المدرسة معهم برغم أخذنا اختبار الإنجليزية والذي اعتبروه أسهل من اختبارهم بالياباينة، كانوا لطفاء أمامنا لكنهم انتقدونا من وراء ظهورنا ولم يكفوا عن النميمة عن كل ما يتعلق بنا، وأتذكر بوضوحٍ عندما قام الطلبة اليابانيون في فصلنا بكتابة لائحةٍ بأسماء الطلبة العائدين وترتيبهم حسب أفضل شخصٍ محتملٍ في التعامل وحتى الأسوأ وعرضوها علينا ضاحكين على الملامح التي ارتسمت على وجوهنا، البعض شعر بأن تلك الحادثة كانت مأساويةً لدرجة أنهم أزالوها من ذاكرتهم تمامًا.
الشيء الجيد الوحيد في ذلك العام هو وجودي ضمن مجموعةٍ من الأصدقاء الذين يعتمدون على بعضهم البعض بعدما كنت لا أملك أي شخصٍ أشاركه تجاربي أصبح لدي الآن أصدقاء مروا بمثل ما مررت به.
كان العام الثاني أكثر هدوءًا فبذلك الوقت أصبح العديد ناضجين كفايةً للوصول لحقيقة أن العنصرية والتفرقة لا تحل شيئًا وأصبحت المدرسة مكانًأ ممتعًا حتى أنني بدأت بتكوين صداقاتٍ مع غير العائدين أمثالي، لكن بانتهاء الأزمة التي كانت تحيط بي في المدرسة أصبحت أكثر وعيًا وإدراكًا بنظرة المجتمع الناقدة لي، فعندماا كنت أتحدث مع أصدقائي بالإنجليزية في أماكن عامة كان الكبار يحدقون بنا ويتهامسون فيما بينهم بل يشيرون إلينا كذلك في بعض الأحيان، وبسبب طريقتنا في ارتداء الملابس بشكلٍ مختلفٍ عن بقية المراهقين اليابانيين كان يتم التحديق في سراويلنا القصيرة وقمصاننا عارية الأكمام، وفي المطاعم عندما كنا نتحدث بالإنجليزية ثم نطلب الطعام باليابانية كان العاملون ينظرون إلينا وكأننا من كوكبٍ آخر.
جاءت أخبارٌ جديدةٌ لأسرتي بأننا سنرحل مرةً أخرى بسبب عمل أبي لكن إلى أستراليا هذه المرة لمدة عامين، كنت حزينةً لأنني سأترك أصدقائي لكنني كنت متحمسةً لأخذ عطلةٍ من أحكام المجتمع الياباني ولأكون نفسي مرةً أخرى بحرية.
في أستراليا كونت صداقاتٍ مع أشخاص فهموني ولم يحكموا علي مهما حدث وشجعني كل من مدرستي وأقراني لتجربة كل ما هو جديد ولتغذية شغفي وأظن أن ذلك ساعدني على زيادة فهمي لذاتي وهو شيءٌ لم أستطع القيام به في اليابان.
مع الوقت بدأت أفقد اتصالي مع اليابان بالطبع واظبت على معرفة أخبارها والتواصل مع أصدقائي لأنهم كانوا جزءًا من كياني لكنني توقفت عن إطلاق الأحكام على الآخرين والنظر إليهم من منظورٍ انحيازي.
مر عامات دون أن أشعر وقبل أن أدرك ذلك كان وقت الرحيل، عدت إلى اليابان مسلحةً بالعلاقات والتصالح مع النفس اللذان بنيتهما في أستراليا ومستعدةً لاستخدامهم في مدرستي باليابان، كما كنت آمل أن الناس أصبحوا أكثر نضجًا وتفهمًا لمحاولتي التصالح مع حقيقتي.
وبينما تغير العديد من أقراني في المدرسة وأصبحوا أكثر تقبلًا لوجودنا بل وكانوا يعتمدون علينا في بعض الأحيان لم يتغير المجتمع الياباني وشعرت بالاختلاف في المنظور بيننا بالرغم من أنني كنت أكثر نضجًا.
عندما بلغت 16 عامًا كنت مع صديقةٍ لي نستعد لخوض اختبار الجامعة القياسي عن تاريخ العالم بأحد الأماكن الهادئة وبينما كنا نتناقش عن الثورة الفرنسية اقترب رجلٌ كبير السن من طاولتنا وسألنا إن كنا يابانيين، أجبته بالإيجاب بالقدر اللازم من الأدب وعندها سألنا عن سبب استذكارنا وحديثنا باللغة الإنجليزية فسألناه عما يراه خاطئًا في ذلك فلخص رده لي حقيقة نظرة اليابانيين إلى كل ما هو غير ياباني عندما قال: “إن لم تتحدثوا اليابانية فلستم يابانيين، إن تحدثتم الإنجليزية أو الفرنسية أو أي لغةٍ أخرى فاخرجوا من بلادي بحق الجحيم، ابحثوا عن مكانٍ آخر تعيشون فيه فلا أحد يريدكم هنا! أنتم لا تنتمون إلينا!” فاجئتني كلماته حتى أننا عجزنا عن إيجاد ردٍ مناسبٍ لأفكاره غير المنطقية واستنتاجه المهين ضيق الأفق الذي كونه من النظر إلى الحروف الموجودة في كتبنا وحسب.
حدث لي ولصديقتي أمرٌ مماثل عندما كنا نتحدث بالإنجليزية في محطة القطار كما نفعل دائمًا وعندما اصطدمنا بسيدةٍ مسنة اعتذرنا لها باليابانية فقالت: “آه أنتم يابانيون؟ إذًا تحدثوا اليابانية دائمًا أيها الغرباء!”
في العامان اللذان غبت فيهما لم يعجز المجتمع الياباني عن التغير وحسب بل أصبح أسوأ ومع توافد السياح على اليابان أصبح إحساس اليابانيين بوطنيتهم أكبر خاصةً كبار السن منهم.
الآن لم أعد قادرةً على اعتباري نفسي سوى عائدة فكل ما يمثلني وأفعله مدفوعٌ بخبرات تعلمتها من العيش خارج البلاد، أنا الآن أملك منظورًا أوسع للأمور وأعرف أن هناك ثقافاتٍ وآراء مختلفة في العالم، في عالمٍ أحادي الثقافة كاليابان من الصعب أن يفهم أصدقائي اليابانيون نظرتي تلك لكني أعرف أنني ما زلت أستطيع الاعتماد على أصدقائي العائدين، وحيث أن هناك عددًا قليلًا منا وحسب فنحن نتحد معًا وكلما أطلق المجتمع الياباني أحكامه علينا نكون واثقين من أننا سنساعد بعضنا البعض.
مصادر
عدل- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «ما بين عوالم مختلفة: صعوبات حياتية واجهتها عائدة صغيرة إلى اليابان». الأصوات العالمية. 1 أغسطس - آب 2017.
شارك الخبر:
|