نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – أسمال الإنسانية

الأثنين 7 نوفمبر 2016


هذا المقال هو الجزء الثاني من مجموعة “نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري.

خرجت. مشهد باص أبيض سُجّل في ذاكرتنا مع العناصر الذين يركبونه طيلة الأشهر السابقة. صعدت وحيداً من بين المعتقلين، مع السائق و”الترفيق” كما أسموهم وهم خمسة عناصر يرتدون الزي العسكري بكامل عتادهم. دام الطريق لثمانين رفسة وما يقارب المئة جلدة بسوطٍ أظن أنه من جلد إطارٍ لدراجة هوائية، وساعة إغماء، ثم وصلنا.

أنزلوني بالاستقبال ذاته في فرع الأمن العسكري بدير الزور. عشرات المعتقلين في الساحة. ندخل جميعاً لممرٍ عريضٍ وطويلٍ، نتوزع على جدرانه، يحيط بنا ما يقارب الثلاثين عنصراً من الفرع. سلّم العناصر المرافقون لنا “الأمانات” من نقود وغيرها كانت معنا للغرفة الصغيرة في بداية الممر.

“اشلح أنت وياه” يبدو أنه أعلى رتبةً ممن حوله. بدأنا بخلع ما علينا. الجاكيت الأزرق، والذي حاولت الحفاظ عليه أكثر من جلدي، كيف لا ومالكه أخي أغيد الذي كان يودُّ ارتداءه و لم يجده، ولم يجدني، فتعلقت بقشّة عسى أن يكتب الله لي الخروج كي لا يستشيط أغيد غضباً. هو يصلّي ويتعبّد الله كثيراً فلا بد أن الله يستجيب له. أكملت حتى بقينا باللباس الداخلي. “امممممم يبدو إنو هالعرصات أول مرة يجربوا الفرع. اشلح كلشي أنت وياه واعمل حركتين أمان، نط وأنزل قرفصة بسرعة ما عندي طول اليوم إلك”.

لا أخلع لباسي الداخلي هنا، بل هو نزعٌ لأسمال الإنسانية. أربعون عاماً وهذا ما أرعب أجدادنا، ثم آباءنا، والآن نحن. لم يكن هناك من داعٍ لأن تسجنوننا، لم يكن هناك سبب لتلحقوا بنا كل هذا العار، أيّ وطنٍ كلانا فيه يكافئنا بكم! أيّ وطنٍ يجعل من مذهبك فرصةً ذهبية كي لا تخلع آخر قطعة ملابس ترتديها! ربّما أحتاج لإعادة تعريف بعض المفاهيم.

الوطن؛ ليس وطناً في هذه اللحظة، هو رقعة من الأرض، التقى فيها البشر، وكان لزاماً علينا أن نعيش معاً، نحن وهؤلاء، أو أن نموت نحن وحدنا. القوة لمن يملك السُلطة على هذه الأرض. المجد للحفاة العراة حاملي أوطانهم في القلوب. يمرُّ شريط الاستنكارات المستمرة مما فعله الأمريكان في “سجن أبو غريب” والذي ندد به زعيم من ارتفع صوته الآن، ولا أقبح ممن ندد بأبي غريب ولم يتنازل لسماع أصواتِ هتافاتٍ وصلت قصره، لا يصدّق أنه عرّى نفسه ولم يعرّنا نحن، فالحرّ مستورةٌ عورته.

على وقع التهكّم والشتائم المستمرة نرتدي ملابسنا ويبدأ الفرز على الزنزانات. “سرمد ع الجماعية الثانية”. أدخل للزنزانة، هدوء، الجميع ينظر للسجين الجديد. أعلّق “الجاكيت الأزرق” في الزاوية على قطعة حديديّة رأيت بعض الملابس عليها. ليس مهماً أن أعرفهم فوراً أو لا، المهم أن الجاكيت سيبقى بخير. أجلس بجانب الباب، هنا يجلس المستجدّون على حد علمي. الجميع حَذِر. “أريدُ قليلاً من الماء” قلتها بصدرٍ مثقل. لا ماء ولا أكل منذ يومٍ وليلة. “تفضل أخوي، وفوت أقعد جوا لا تضل ع الباب”. صوتٌ متعبٌ مثلي أدخل الاطمئنان إلى جوفي قبل الماء. نمتُ جالساً من الإنهاك، لم أفق إلا ليلاً، أو هكذا أظن قياساً على الوقت دون شمسٍ أو قمر.

وحيداً في زاوية الزنزانة، رغم اكتظاظها. كم من الأوطان يسجن جسدك؟ يحاول حصر أكبر عددٍ من الجموع البشرية، تزحف إليها، تستجديها طفلاً ضاعت أمّه، تخذلك! أمسح بـيدي على الحائط وكأنه جُبِلَ من طينٍ ودمّ. كم من الأوطان دفن ابن الثامنة عشر، هلَّ عليه التراب، خنقه، ومشى، وكأنني ما كنت هنا.

ربما هم لا يريدون سجننا، بل يحاولون صنعَ وطنٍ لكلِ فرد طالب بالحرية، لربما جمعونا هنا كي يوزعونا على أوطانٍ أصغر، فندور حول أنفسنا ولا رؤوس تُرفع، ونروي القصص لأولادنا عن رأسٍ مُدّت إلى الخارج، وما رجعت.

يقطع الهدوء صوت “طبطبة” يَدَي رجلٍ أربعيني على الحائط. يضرب براحة يده بخفّة، ليس بقبضته كما هو معتاد. يرى شابٌ بجانبي نظرة الاستغراب. “يقوم بالتيمم. لا يوجد ماء هنا إلا في الحمام، نشرب منه و نتوضّأ أحياناً، ولكن العم يُفضل التيمم قبل كل صلاة”. يقف في زاوية الزنزانة بعد وقوف العديد من الشباب معه، يبدأ الصلاة، صوتٌ خافت لقراءة القرآن. أحاول مراراً الابتعاد عن وصف قياس الزنزانات، هي أصغر من الوصف، وللحظات كانت أكبر من مسجد حيّنا. “آمين” نثرت روحانية كانت أكبر من رهبتي عند دخولي الأول لكنيسة.

“يا رب، أغيد أخوي يصلّي، وهو يضل يدعي، وأنا مو كرمالي بس كرمال جاكيتو الأزرق، مو معقول يصير عليه شي وينزعج، طيب أبوي أيش صار بيه، هو كمان يصلي ويدعي كثير، مو معقول ما يطلع”. حوارٌ داخلي، نمت بعده.

السادسة صباحاً، كما قال السجّان عندما دخل. “الكل واقف و وجهو ع الحيط”. انتهى من التفقّد. “عبد الرحمن، سرمد، عدنان، أحمد، اطلعوا لعندي”. هؤلاء وصلوا فجراً أثناء نومي، هذا ما عرفته لاحقاً. دخلنا إلى غرفة شبه فارغة. طاولة وكرسي بجانب الباب، عدّة “كلبشات” في آخر الغرفة، مع أنبوب حديدي وَضع في مكان أنبوب الستارة ورُبط به “جنزير” يتدلّى منه. على حسب الرتبة فقد كان “ملازم أول” هو من يجلس خلف الطاولة، يرتدي بدلة مميزة، تشبه بدلات قوات البحرية، زرقاء مموّهة، والجّلاد محمد الحلبي، كما ناداه. رفع الغطاء عن رؤوسنا، وبدأ بعدنان وأحمد. كانا يصطادان بسلاحٍ غير مرخّص، لكلٍ منهما عشرون جلدة كانت كافية لإخراجهما من غرفة التحقيق بعد تغطية رأسيهما وبقينا أنا وعبد الرحمن.

“اليوم ما إلي مراق حقق معك ومعو، وبكرا ما إلي. مبدأياً رح نكرم ضيوفنا 3 أيام وبعدين ممكن نحكي”. ثم خرج من الغرفة. “أشلح أنت وياه ضلّو باللباس الداخلي بس” قالها محمد الحلبي وهو يتقدّم باتجاهنا. يدخل أيدينا ببعضها ويشد “الكلبشات” عليها حتى أصبحت كحلقتين في سلسلة، يرفع أيدينا ويربطها بالجنزير ويرفع الجنزير حتى باتت أصابعنا تلامس الأرض بصعوبة، فلا أنت معلّق بالسماء ولا ملامس للأرض، يقدّمنا قرابين من دم. غطّى رؤوسنا، ثم سمعنا صوت طقطقة حذائه الأسود. خرج بكل هدوء، أغلق الباب، التزمنا الصمت خوفاً من تربصه بنا.

يدان مرفوعتان للإله عنوة، خيطٌ من الدماء رُسم إثر جرحٍ بفعل “الكلبشات” قدمان مشدودتان تحاولان لمس الأرض بأطراف الأصابع حتى لو لم أشأ ذلك، أنينٌ يصدر مني لا أستطيع إيقافه، ويكمل معي عبد الرحمن الأنين. كان تعارُفنا الأول، مُجرِمان من تراب الوطن، لم يهُن عليهما أن يبقى معلقاً كما هما الآن، رأيا في نفسيهما عزّة مُنتصبة، في وقتٍ مُسحت فيه كلمة الإنسانية من القاموس في طوفان الدماء بذلك القبو. لا محتلّ باقٍ، ما كانوا فعلوا هذا بنا لو لم يخافوا، وها هم الآن يعلّقون قلبين منتصرين وسط الهزائم.

يزداد الأنين شيئاً فـشيئاً. “إذا بدك حاول تسند إجرك ع إجري وارتاح شوي” قالها عبد الرحمن بصعوبة بالغة. وقفت على قدميه. لا نعرف الوقت، نقدّر المدة، ولا نستطيع الإطالة خوفاً من دخولٍ مفاجئ. تبادلنا الأدوار، فبات يقف هو على قدمي، ولكن لم يكن ذلك كافياً ليخفف الألم كثيراً. “هذا اسمو شَبْحْ، مشان لما نطلع بكرا نقول للشباب إنو صرنا معتقلين سياسيين وصرنا ننشبح” لا يستطيع عبد الرحمن إخفاء الوجع من صوته رغم محاولته ذلك. نضحك على أوجاعنا، يمضي الوقت أو يكاد، وكلانا شبه فاقدٍ للوعي. صحونا على صوت فتح الباب بقوّة، إنه محمد.

مصادر عدل