نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – الفكرة الجريمة

الأحد 13 نوفمبر 2016


هذا المقال هو الجزء الثالث من مجموعة “نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري.

تتعلّم أن تحفظ وجه جلاّدك من صوت حذائه. نسقط من السماء السابعة، أو على الأقل هذا ما أحسست به، قام بفك الجنزير بشكلٍ مفاجئ، ثم الكلبشات، رفعنا معاً وجرّنا حتى الباب، مع رفسٍ مستمر. أصوات الصراخ والأنين تملأ الممر. تجمع حواسك بالسمع، الكل مُرتجف القلب، وحده الموت من يتجوّل بطمأنينة، لا يخاف من الجلّاد، ولا من الضحيّة، لا يأبه بالشَبحْ ولا بالكبل ولا بالدولاب. لا يعنيه المحققون، ولا “مُخرِّبو” الوطن، ولا حتى محمد الذي يخنق ما تبقى من حياة.

نصل إلى الزنزانة، خطوتان كانتا كافيتين لرمينا على الأرض، يمسحون أيدينا وأقدامنا من الدماء، كل شخصٍ منهم ترك لنا قليلاً من الخبز، يطعموننا، وننام، إلى حد الموت، أو أبعد.

أصبح هذا روتيناً لثلاثة أيام، يتكرّر بتفاصيله. اليوم الرابع، التفقد، انتهى التفقد، لم يُنادَ علينا. السجن أصعب مما تتخيّل، ثقيلةٌ أيامه ولياليه، وطأة ظلامه، الانتظار القاتل حتى إن لم يعذّبوك، هل نسونا؟! هل استقبلونا وسنبقى هنا فقط؟ لماذا لم يأخذونا اليوم؟ هل حصلوا على الهاتف المحمول؟ الحاسوب؟ تعصف بك الأسئلة حتى تنتهي منك، ولا تنتهي أنت منها.

يمضي اليوم، تتشابه الأيام، رائحة العفن والدماء، الأنين من حولك، جلود المعتقلين والجدران المتشابهة، في كلِّ شقٍّ ذكرى، جميعها تألفها؛ المألوف المكروه.

اليوم الخامس يمضي كسابقه، حتى وقت العصر. يفتح السجّان الباب “سرمد لبرا”. أخرج معطياً ظهري فوراً لتغطية الرأس وكلبشة اليدين. أمشي الممر، أدخل للغرفة، أتخيلها غرفة مشابهةً لغرفتنا الأولى. “جاثياً على الركبة”. أجثو، خافض الرأس، صريرُ قلمٍ بطيء مرافق للكلام. إذاً هناك شخصان. “سرمد يا سرمد، والله ليك مو باين عليك ناقصك شي، حتى عمرك باين عليك أكبر منو، وابن دكتور، يعني لازم تكون متربي، ليش لتحمل سلاح؟” بدأ بتهمة السلاح، محضراً نفسه على الأقل لأن يخرج مني باعتراف تظاهر في أسوأ الأحوال. “ما شلت سلاح ومو مستعد أشيل سلاح” ضربة من الخلف بـالكرباج كانت كفيلة بأن أُطرح أرضاً ويجلس عليّ شخصٌ يبدو أنه الثالث. الركبتان أسفل كتفي بقليل، يحاول الضغط بهما. “فيك تجاوبو باحترام لسيادة المحقق مشان نضل محترمينك”. يحاول جاهداً إخفاء لهجته الأساسية وهو يقول الجملة. يكمل المحقق: “شوف يا سرمد، فيك تحكي برواق ونجيبلك كاسة شاي وتسمعنا. خلص رح صدقك ما شلت سلاح، بس كمان لا تقلي إنك ما صورت وما طلعت مظاهرات، رح نزعل.” يبتعد الجاثم على ظهري. “امبلا، طلعت مظاهرات، وما زلت أطلع”. ينهال عليّ بالضرب على ظهري وأسفله وقدمي، دقائق ويتوقّف. “طيب يا سرمد خلينا نسمع سوا”. قام بتشغيل مقطع فيديو لمظاهرة بصوتي. “سمعت يا سرمد، نحنا ما منظلم حدا، هاد صوتك وهي من الجزيرة”. لا يخطر ببالي سوى جواب وحيد:”الجزيرة يلي بتقولوا عنها فبركة سيادة المحقق؟ أكيد هي من ضمن الفبركة”. جملة كانت كافية ليتوقف التحقيق الشفهي ويخاطبني بلغته التي يفهمها. تتوالى الضربات، يستمر مع أخذ أوقاتٍ مستقطعة، ليتوقف بعد وقتٍ قدّرتهُ بساعة. أعود مترنّحاً للزنزانة.

لم أستيقظ إلا برفسة توقظني من النوم. أحسست أنني نمت دون شعور منذ التحقيق الأول. يغطي رأسي، يضع الكلبشة ونمشي ذات المسافة الصباحية والاتجاه، نفس الأصوات عادت تتردد، جاثياً. أعاني من الناميات الأنفية مما يسبب صوت نفس عالي. “إذا ما قدرت تخفي صوت نفسك حاول تكتمو مشان ما أكتملك ياه” قالها وأظنه كان مشغولاً بشيءٍ ما. أسحب النفس ببطء شديد، أزفره محاولاً الكتم قدر الإمكان. ترافقني الرجفة، برداً أو خوفاً لا فرق، الأهم أنها تسبب صرير أسناني. “أي يا سرمد، مو ناوي تعترف وتخلينا نخلص وأرجع ع بيتي مرتاح وأعمللك إخلاء سبيل ع بيتك مرتاح؟ مين كان يصور معك؟ من وين كنت تبعت للقنوات؟ شو في شي لسا ما منعرفو؟ رغم إنو شوف منعرف كلشي بس حابب أسمع منك”. لا مجال هنا للتفكير، كلما أسرعت بالجواب كانوا أكثر ثقةً بصدقك. “ما صورت شي، كنت قادر قلك إنو ببساطة أنا مو عامل شي وأعمل حالي مسكين، بس قلتلك إنو طلعت مظاهرات لإني مآمن إنو رح تعمل للبلد شي صح”. يأمر بفكّ عصابة العينين “الطماش” ويكمل: “شوف كيف صرت أحسن منك وفكيت عن عيونك لحتى تشوفني. يا سرمد اعتبرها نصيحة مني، أنت لساتك صغير والمستقبل قدامك، ممكن نسكر كل الأبواب بوجهك وممكن نفتحلك ألف باب تساعدك، أنت حر بخيارك، تفضل على هالكرسي، وهي اللاب توب قدامك أفتح الفايسبوك أو هاد الياهو، اللي هو، الشي يلي تبعت عن طريقو الفيديو، وقلي لمين وريحني وريح حالك”. تتقاطع خيوط رواية المعتقلين كافة في هذه اللحظات، تختلط أهمية حياتك مع حيوات المحيطين بك، تبدأ بترتيب أولوية الأهم، من يجب أن يبعد عنهم الخطر، وبمن التضحية الممكنة إن لم تستطع. كانت أمي تخبرني كثيراً عن “مصيبةٍ لا تتمناها لعدو” ولم أتمنّ لأحدٍ أن يمر بما مررت به. “ايميلي عليه مواقع تشات وما عليه أي شي وتفضل راح أسجللك الدخول فيه”. ضربٌ مستمر باليد على الرقبة لإدخال كلمة مرور خاطئة رغم أنه بريد إلكتروني قد قمت بتحضيره مسبقاً لهذه المواقف. فتح في المرة الثالثة، مواقع تعارف، دردشة، وعديد من المنتديات، لم يقتنع. “ما بعرف ليش مفكرني مساعد بالجنائية، ما عم تفهم شو يعني محقق بفرع أمن عسكري؟ مو مشكلة”. وضع الطماش على عيني، الكلبشة في يدي، وضّب أغراضه من الطاولة، حملها، وخرج. دقائق تمرّ، لا أحد يراقب تنفسي، لا سجّان، لا سوط يسجل عليَّ الوقت، فُتح الباب “جاثياً ع الأرض”. تغيّر الصوت. وضعني داخل دولاب، وبدأ بضربي بالكرباج. يبدأ بالقدمين، ويصعد تدريجياً. يخرج الصراخ دون أيّ تحكّم. يستمر مع أخذ بعض الاستراحات التي يقوم خلالها بسكب دلوٍ من الماء شديد البرودة. استمر لساعات، حضّر فيها كأساً من شيءٍ أسمع صوته وهو يشربه، أشم رائحة السجائر، وللأسف إذ بدت الغرفة غير مخصصة للمدخنين، فعندما لم يجد “نفّاضة” اضطر أن يطفأها بقدمي. أُنهكت، فقرر العفو عني شرط أن أستطيع الوقوف دون مساعدة حتى أذهب. بعد عدّة محاولات استطعت ذلك، أجرُّ نفسي وهو يقودني للزنزانة، أدخل فيها، ويُغمى علي.

هو نموذج فقط، يمثّل نظاماً أرعن، يرى في الفكرة جريمة، يتحوّل من خطرت له إلى مجرمٍ يستحقّ أن تحضنه الزنزانات، يريد منا ألا نهلوس بالحريّة، الحرية التي يكرهها النظام المستبدّ، تعرّيه.

“سرمد.. سرمد.. مو منيح إنو تضل نايم، فيق مشان تغسّل”. إنّه صوت عبد الرحمن. يبدو أنني لم استيقظ حتى مساء اليوم التالي، عدا عن لحظات التفقّد. “خلص ارتاح حالياً، يا أما يجيك تحويل أو إخلاء سبيل، كل الشباب هيك صاير معاهم”. يقولها مبتسماً. عبد الرحمن شاب من مدينة الطبقة، من المثقفين القلّة، يناقش الجميع بضحكة لا تفارقه أبداً، كان يعمل في المركز الثقافي في الرقة مما أتاح له فرصة قراءة كتب كثيرة، داهموا منزله ليجدوا كتب ممنوعة من قبل النظام، مع صوره في عدّة مظاهرات، كانت كافية لاعتقاله.

زوّارٌ جدد يدخلون في اليوم التالي، يتحدث الجميع عن طاهر الذي تم تحويله إلى المنفردة بقربنا. “ما قدروا يعتقلوه إلا ضربوه رصاصة برجلو وهو استعصى وضرب الوريد برقبتو بشفرة” يقولها متعجباً بقوة طاهر وهو يصفه شابٌ من الدفعة الجديدة، يكمل بذات التعجب: “هو طويل وضخم، بس قدر عليهم”. تمضي الساعات، يقررون إخراج طاهر للتحقيق، نتهافت بهدوء وسرعة، من يصل أولاً لفتحةٍ صغيرةٍ في الباب يرى طاهر. شابٌ طويل، عريض المنكبين، على قدمه جهازٌ خارجي لسند العظم إثر الرصاصة التي سببت تفتيته، قطبة طبيّة على الوريد برقبته، هابه السجّان! أخرجوه للممر، جميعنا صامت، الكلّ ينتظر أي صوتٍ من الممكن سماعه، لا شيء! نحاول كسر روتين السجن بانتظار ما يحدث مع طاهر، يبدو أنهم أخذوه لغرفة التحقيق البعيدة. يمرّ الوقت دون أيّ كلام، يعود كلّ شخصٍ منا لما يفعله، هو لا شيء، ولكن ما من شيءٍ نفعله أساساً، جلوس وانتظار فقط.

يُفتح باب الممر بقوّة، صوت حذاء السجّان يقترب، يفتح باب الزنزانة ثم يلقي بطاهر بيننا على الأرض، يغلق الباب. ننتظر ابتعاده، ونبدأ بمسح جروح طاهر من رأسه حتى قدميه. لو كنا كلاباً في تلك البلاد البعيدة لجلسنا الآن بجانب الموقد، نأكل ولا شيء نفعله سوى أننا نُدلَّل، ويحموننا أيضاً، أما هنا تنتظر دورك، يضمّدون جراحك أو تُضمِّد جراحهم.

لم تمضِ ساعة على إدخال طاهر حتى استيقظ مما كان به، دقائق قليلة كانت كافية لكي يقف بصعوبة، يضع يده على فتحة الباب! هي كـنافذةِ القبر، لا أحد منا استطاع سابقاً الاقتراب منها، حكرٌ على السجّان وأصدقائه. “يا سيادة المحقق أنا كنت شب طايش ومطبّق بنات كثير، معقول أختك من بيناتهم وحاقد علي لهلدرجة؟ طيب معقول أنا قاتلك شي مرة ومن يومها حامل بقلبك؟ يعني لو قايللي كان تسامحنا برا بدل ما تعذب حالك”. يصرخ طاهر و يضحك بآنٍ واحد. أسمع دقات قلوب من معي، وتقريباً كنت متأكّداً من سماعهم لدقات قلبي. “هو العمر واحد والرب واحد، من الأول كنا نعرف حالنا طالعين وممكن نموت، خلينا ع الأقل نموت واحنا مرعبينهم، يعني معقول كل هالناس يلي يقتلون بينا بس لإنو إحنا خايفين؟ لأ هم خايفين منا أكثر من خوفنا منهم”. يحاول طاهر أن يُسمع السجّان كلامه رغم توجيه الكلام لنا، يدخل السجّان مع عنصرين آخرين، يفتح الباب بقوة، ينهال على طاهر بالضرب ويخرجونه سحلاً. كانت تلك المرة الأخيرة التي أرى فيها طاهر في فرع الأمن العسكري بدير الزور.

مصادر

عدل