نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – لا تنسوهم
السبت 17 ديسمبر 2016
هذا المقال هو الجزء السادس والأخير من مجموعة“نائمٌ حدّ الموت أو أبعد” التي تحكي مذكرات اعتقال وتعذيب الناشط سرمد الجيلاني في سجون النظام السوري.
تقترب هنا ذكرى الثورة، يجب أن نقوم بالتحضيرٍ لشيءٍ ما. لا أشهى من سيجارة “حمراء طويلة” منّينا أنفسنا بها لشهور طويلة. حان وقتها الآن، فهذا يومٌ مميّز لا يجب أن يمضي كباقي الأيام. منذ وصولي أخرجتها من حذائي ليحفظها بلال في قطعة قماشٍ صغيرة قد نسجها داخل البطانية، يطمئنّ عليها كل ليلة. “أتنفّس الحريّة من داخلها” كما يصف تقبيلها يومياً. “واحد خشب بلا صوت يا عرصات أنت وهو” جاء الصوت من الخارج، وكأي مُقدمٍ على أمرٍ كبير زاد معدّل الأدرينالين. “أسكتوا هاي مخبيها من الشرطة العسكرية بحلب، لازم اليوم كلنا نشرب منها ونفرح بذكرى الثورة”.
ستة وثمانون رجلاً “شُبِحوا” من أجل السيجارة، مقولة عُدي، حيث انتهى بنا الطريق بمحاولة إشعالها من ضوء السقف بعد رفع عدي لي ليدخل السجّان ويُخرج الجميع. احتفلنا بعيد الثورة، جميعاً، بقلبٍ واحد. لم يعرف الضابط من أخرج الكنز. تتالت الأيام، وحمل عدي السر معه حتى استشهد تحت التعذيب. استشهد بلال لاحقاً بعد خروجه وانضمامه للجيش الحر في البوكمال.
ستلاحقهم لعنة الدم إلى الأزل. تكبر أحلامنا دون طعام، يعذبوننا ونصرخ بملء جوارحنا، نتضخّم، نملأ الأماكن، يقتلون، يخنقون، يذبحون، يقسموننا لأعضاء، ولكن عبثاً، تكبر الحريّة دون حياء.
تتعلم في السجن أن صاحبنا المحقق لا يكبر إلا ببزّته العسكرية، ساعة تطأ قدماه الفرع يتحول إلى وحش، يتجسّد فيه إلهٌ أوكلت له مهمة معاقبة كل من خالفه بالرأي. يستمدّ القوّة من سوطه، كرةً نارية تقذف بحقدها من يشاء، يطلق ما في قلبه من رعب أمام حفنةٍ من الناس العزّل، يظهر ما يستطيع من البطش، بؤساء يقدر على كسر رقابهم، ولا استطاعة لهم أن يردّوا الصاع صاعين. هو محقق، ابن هذا الوطن، كما نحن، يقتل أخيه دون اهتزاز جفن. يحاصر ويعذب ويمنع أبسط الحقوق. أيّ وطنٍ سنبنيه معاً؟ بتنا نعرف أن الموت لا يمكن أن يستثني أحداً، يُبخسون الإنسان في أوطاننا، كانت اللعبة أكبر منّا.
تمضي الأيام، وبمعجزةٍ ما يتم تحويلي للفرع 291. منفردة لمدة يوم واحد، يتم بعدها إخلاء سبيلي بعد جهودٍ من أحد الأقرباء.
اليوم، بعد أربع سنوات، أكتب تفاصيل قصتي الكاملة وللمرة الأولى. لست فخوراً كثيراً بما حدث. بالنسبة لي، وكرأي شخصي، من لم يعتقل كان قادراً على العمل أكثر ممن تم اعتقاله، رغم عدم اعتقال أحد إلا مُكرهاً مجبراً. أكتبها الآن توضيحاً لما حدث. اليوم أنا في دولة أوروبية أمارس حياتي بشكلٍ طبيعي، ولكن هناك من بقي جالساً خلف القضبان، بصمت، يصفرُّ لونه، يَبْهُت، يهتزّ ورقةً في وجه الريح، لا ينتظر منّا شيئاً.
صديقي المعتقل، متيقّنٌ من أنك لا تستمع لحديثنا الفارغ، لا يهمك تضامننا معك، لا يهمك النفاق والمظاهر ومجموعات التأييد التي نقوم بها. يا جالساً في عتم السجون، متحملاً كل التحقيق والقمع، أنت، لوحدك، يابس الأمعاء، أقوانا عزيمةً وثورةً وعنفواناً.
أكتب الآن عني، عندما كنت منكم، عنكم، لا أملك وسيلةً أخرى للتكفير عن ذنبي. أكتب و أنا أخجل منكم، أنا الجالس في منزلي، لا أملك حتى الانقطاع عن الأكل والشرب، مسجونٌ بذكراكم، لا شيء يشفع لي. أيقونةٌ أنتم، لا أحد سواكم يستحق الحياة إلى يومٍ تتذوقون فيه النصر، تكبّر حريتنا بكم، نفتخر معاً بماضينا.
نهايةً، لم أستطع ألا أترحّم عند سماعي بمقتل عبد الرحمن وهو يقاتل في صفوف داعش، عبد الرحمن الشاب المثقف قد بايع داعش منذ نشأة التنظيم، استطاعوا صنع داعشيٍ منه، ولم يجد وسيلة أخرى للانتقام.
خرجت أيضاً لأعلم أن أبي قد تم إطلاق سراحه فوراً و لكنهم استطاعوا أن يزرعوا فيّ تأنيب الضمير لشهورٍ طويلة. عاد الجاكيت الأزرق لأغيد ولم يغضب، كانت هذه إحدى فوائد السجن الطويل، وسامحت الشام على ما مررت به عند سماع صوت أمي على الهاتف من أمام مبنى “شام سنتر” بعد خروجي.
أعتذر من الأشخاص الكثيرين الذين مرّوا بهذه التجربة وسيستعيدون اللحظات عند قراءتها. هذه ليست قصتي فقط، هي حالة مرَّ فيها عشرات الآلاف غيري. حاولت إهمال كثيرٍ من التفاصيل التي لم أر لها حاجة. هذه تجربتي المنتهية، وقد كانت نهايتها أفضل من نهايات غيري، لأصل هذه اللحظة وأنا أكتبها وأنهيها، رغم خضوعي لعدة علاجات على مدى أشهر، من جرثومة رئوية، تشنج عصبي، ومرض الضغط الملازم لي حتى اليوم. هناك من لم تسنح له فرصة إنهاء قصته، وهناك من لا يزال فيها حتى الآن، فلا تنسوهم.
مصادر
عدل- نص مؤلف ومترجم برخصة المشاع الإبداعي نَسب المُصنَّف 3.0 غير موطَّنة (CC BY 3.0). «نائمٌ حدّ الموت أو أبعد – لا تنسوهم». الأصوات العالمية. 17 ديسمبر - كانون الأول 2016.
شارك الخبر:
|